تقاعد الملحق العسكري في فرنسا العميد جورج نادر. المحارب بصمت. القائد السابق لفوج المجوقل (مغاوير الجوّ) تعايش مع أوجاع إصابات لم تفارقه طوال ربع قرن. إصابات في يده اليمنى وكتفه اليسرى وعنقه وكلها لم توهن عزيمته.
جورج نادر الذي يتناقل الشباب صوره كبطل من أبطال الجيش اللبناني، يخرج متوّجاً بوسام جوقة الشرف الفرنسي من رتبة فارس سيتسلّمه في العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز المقبل، وسيبقى راسخاً في قلوب عسكره الذين لم يخذلهم يوماً مؤثراً الموت على التخلي عنهم، ونموذج الكويخات لا يزال ماثلاً: قائد فوج «المجوقل» الذي سجن عسكره وضباطه بسبب حادثة الكويخات في عكار التي ذهب ضحيتها الشيخ أحمد عبد الأحد ومرافقه أحمد مرعب (في العام 2012) رفض تلبية أيّة دعوة اجتماعية على مدى 110 أيام، مكتفياً بالدوام في ثكنته وبزيارة عسكره وضباطه يومياً في السجن، محمّلا نفسه تبعة الحادث، برغم أن عسكره وضباطه كانوا قوة دعم للواء الثاني فحسب، وبرغم أنه أعطاهم أمراً صريحاً بعدم التعرض أو تفتيش الشيخ عبد الأحد ولو كان يحمل «آر بي جي»، لكنّ صوت الرصاص الذي أطلقه المرافق ثم الشيخ كان أشدّ قوة من أمره، فبعدما جُرح أحد العسكريين حصل تبادل نيران وجرى ما جرى.
بعدها بقي العميد نادر عاماً ونصف العام محارباً، خصوصاً في بيئته العكاريّة، ليُنفى بعد ذلك الى فرنسا ملحقاً عسكرياً. قبل ذلك سُئل عما يطلب؟ فكان جوابه أن يكون قائد المدرسة الحربية أو كلية الأركان. لم يُستجب له، فانتقل من «المجوقل» الى السلك الديبلوماسي في فرنسا ملحقاً عسكرياً، لكنّه واظب على متابعة الضباط اللبنانيين الذين يقصدون فرنسا للتدريب سنوياً، وهو لاحق تفاصيل الهبة الفرنسية للجيش اللبناني كاتباً التقرير تلو الآخر عن احتياجات الجيش من أسلحة فتاكة وضرورية لمحاربة إسرائيل والإرهابيين، وبعد أن تسلّم الجيش الدفعة الأولى من الأسلحة الفرنسية يقول نادر إنّ «هذه الهبة لا تلبي أكثر من 15 في المئة من احتياجات الجيش اللبناني».
المغوار أوّل من يموت
بعد 35 عاماً أمضاها في المؤسسة العسكرية، وبعد تقاعده الصامت، وبعد خوضه حروباً كثيرة، يعود الى ذهن العميد نادر رجع صدى كلمة والده العسكري أنطونيوس نادر الذي توسّله بألا يدخل المدرسة الحربية وقد أخذت مؤسسة الجيش عدداً من أبنائه الستّة، آخرهم الشهيد جوزف الذي استشهد في 2 آب 1989.
كان نادر متيّماً بحب المغاوير الذين رآهم صغيراً في عرض في المدرسة. كان في سن الـ12 عاماً، حين جاء ابن بلدته القبيات العميد مخول حاكمة قائد كتيبة المغاوير الأولى ليقدم عرضاً لمغاويره. يروي نادر: «أطلق مغوار النيران باتجاه آخر فلم يصبه بأي أذى، وبسبب صغر سني وجهلي بوجود «خرطوش خلّبي»، اعتقدت بأن المغوار لا يموت، لأكتشف بعدها أن المغوار أول من يموت».
قرر نادر الانخراط في الجيش، لكن والده حاول جاهداً ثنيه. جرّب رشوته بـ «جفت» لممارسة هواية الصيد. الوالد العسكري في فوج الهندسة والذي قاتل في معركة المالكية في العام 1948 والذي طالما تباهى بأنه «ديغولي» في الحرب العالمية الثانية عارض نجله بشدة ولسان حاله يقول: لا أريدك أن تذهب الى الجيش لأنك آدمي والآدمي يتعب في بيروت.
أجابه جورج: أريد أن أعمل ضابطاً.
قال الوالد: الضابط يتعب أكثر من العسكر. أغلق عليه باب الغرفة: ما تروح على الحربية خليك حدّي.
أجاب نادر: بدي روح.
جاءه الجواب: الله معك.
لم يتعب الوالد من ملاحقة نجله في البداية، لحق به الى المدرسة الحربية التي التحق بها عام 1980، تسبب له بمشكلة في فترة الحجز القانوني لأنه زاره سراً، علم الضابط المسؤول عن نادر بالأمر بالرغم من ان الأخير لم يستقبل والده، فنال عقابه الأول: إحلق شعرك، ضع الخوذة الحديدية واركض 50 دورة في الملعب.
نفذ نادر الأمر بانضباط كلي، تشهد له كلّ أعوام خدمته العسكرية منذ تخرجه في 6 أيار عام 1983: قام بمهامّ صعبة وشاقة في الحرب، استُدعي من مأذونياته مراراً مذ كان في ثكنة «خدمة العلم»، ومنذ ذلك الحين لا ينسى أسماء رفاقه الشهداء الذين سقطوا معه في مهامّ شبه مستعصية في زواريب بيروت وأحيائها المحترقة بنيران الحروب الأهلية.
شُكّل الى فوج المغاوير في العام 1985، وكان تأسس حديثاً فبقي فيه سبعة أعوام وشارك في حروب عدة: سوق الغرب (1985)، الدوّار (1986) حرب التحرير (1989) حرب الإلغاء مع القوات اللبنانية (1990) وإبان الحربين الأخيرتين سقط شقيقه جوزف شهيداً عند نهر الموت، يتحسّر لغاية اليوم لعدم تمكّنه من حضور دفنه.
في الحرب بين الجيش و «القوات اللبنانية»، فقد نادر في ثكنة أدما ولدي شقيقته بسام ودوري رزق اللذين تطوّعا أيضاً في الجيش، وفقد من يصفه بأعزّ شخص لديه الرائد بسام جرجي.
أصيب في حرب 13 تشرين 1990 بشظايا قاتلة في برمانا لا تزال ندوبها العميقة ماثلة للعيان في يديه وكتفيه وعنقه، ولا يزال يعاني من آلامها يومياً ويطلب منه الأطباء الخضوع لعمليات جراحية فيرفض.
بعد تلك المعركة خرج الجنرال عون من لبنان وعاد نادر الى ثكنته العسكرية. حارب في فوج المغاوير في شرق صيدا وفي عين الحلوة والمية ومية. تابع دورة أركان في لبنان وصُنِّف ثانياً، ثمّ تابع دورة أركان عليا في فرنسا، وعُيِّن بعدها مساعداً لقائد فوج المغاوير عام 2003 (كان العميد عباس ابراهيم هو القائد) وشعر بسعادة قصوى بإعادته الى فوج قاتل فيه سبعة أعوام مردداً: «شكلوني الى البيت».
اغتيل الرئيس رفيق الحريري، وفي يوم 28 شباط 2005 تفرّد نادر بتواطؤ مع الشهيد فرانسوا الحاج على فتح الطرق أمام المتظاهرين الذين غمروا ساحة الشهداء بأعلامهم وصرخاتهم وقبضاتهم يوم استقالة حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، مخالفاً تعليمات قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان التي رفض أن يعطيها خطياً بمنع هؤلاء من الدخول الى الساحة، كرّر «الفعلة» عينها يوم «انتفاضة الاستقلال» في 14 آذار 2005، فشُكّل تأديبياً في معسكر «خدمة العلم» ثمّ مدرِّباً في كلّية القيادة والأركان.
لكنّ تطورات حرب مخيم نهر البارد وإصابة قائد فوج «المجوقل» آنذاك العقيد شربل الفغالي حتمت تشكيله مجدداً كقائد للمجوقل عام 2007 وفي سابقة طُلب اليه الالتحاق فوراً في مركزه فحسمت معركة البارد بـ22 يوماً، وتميز وقتها بنزوله الى أرض المعركة، الأمر الذي جعل معنويات العسكريين عنصراً حاسماً في تلك الحرب ضد الإرهاب.
في «المجوقل»
في «فوج المجوقل»، أرسى نادر لجنة تقييم نفذت الخطّة الخماسية، وبعد أن تم رصد نواقص هائلة في اختصاصات أساسيّة كوجود ممرضين فحسب للفوج بأكمله، وعدم وجود أي قناص، بات لدى المجوقل 48 قناصاً و42 مسعفاً وعدداً كبيراً من عناصر الهندسة وعناصر مدربة بالذخيرة الحية. كلّ هذا التطوير لم يوقف الفوج عن القتال وفصل المتحاربين في 7 أيار عام 2008 من بيروت الى الشويفات ومن طرابلس الى الكويخات حيث وقعت الواقعة التي دفع نادر ثمنها بتعيينه ملحقاً عسكرياً في فرنسا في 30 تشرين الأول عام 2013.
لكنّ الناس أنصفت الضابط المعروف بانفتاحه ولا طائفيته: مساعده الخاص وحامي منزله من البيرة مسقط رأس الشيخ عبد الأحد، وزوجة مساعد الشيخ المدعو أحمد مرعب الذي قتل زوجها برصاص عسكر «المجوقل» قصدته بعد أن سدّت بوجهها الأبواب ليحصّل لها حقوقاً لزوجها من قيادة الجيش، فقصد نادر العماد جان قهوجي الذي لبَّى طلبها فوراً مندهشاً من قيام نادر بهذه المهمّة.
ويروي عارفو نادر أنه إبان الحرب على خطوط التماس عام 1984 وكان في رتبة ملازم، ألزم العسكريين الذين يقطنون في المناطق المسيحية باصطحاب رفقائهم المسلمين إلى منازلهم أثناء مأذونياتهم لأنّه كان يتعذر على هؤلاء الذهاب الى منازلهم بأمان بسبب حواجز الميليشيات.
يزمع العميد نادر مواصلة نضاله هو المرشح الدائم لقيادة الجيش والذي طُرح اسمه من أكثر من جهة، وهو من الضباط المحسوبين على العماد عون وقد فقد في حروب «الجنرال» 3 من أفراد عائلته.
هل ندم لأنه لم يسمع نصيحة والده؟ يقول: «نعم ندمت على المستوى الشخصي لأنه ربما لم أكن لأخسر أخي وأولاد شقيقتي ولم يُسجن شقيقي الثاني في أقبية «القوات اللبنانية» ويعذًّب 10 اشهر، ولم أكن لأخسر جزءاً من عافيتي، لكنني لا أندم لحظة لخدمتي المؤسسة العسكرية بشغف واندفاع وقناعة».