Site icon IMLebanon

بلدكُمْ: “غير شكْل”

 

قرأتُ، وأُحبُّ أنْ تقرأوا ما قرأت: أنَّ إحدى حكومات لبنان عهد الإستقلال، إستقدمَتْ خبيراً عالمياً إسمهُ «فان زيلند»، لدرس تطوير النظام الإقتصادي، فرأى أنّ العدد الأكبر من اللبنانيين يتعاطون أعمالاً إعتبرها غيرَ منْتِجـة ومنهم: الأدباء والشعراء والعلماء والصحافيّون والفنّانون والمطربون والرسّامون… ومع ذلك فإنّ الإقتصاد اللبناني يقـفُ مُعافى على قدميه فقال: «بلدكُم غير شكل.. فابْقوا كما أنتم»(1).

الوزير إميل لحود الذي كان وزيراً «غير شكل»، بارزاً في الحكم كما في الشعر، حين اطّلع على تقرير هذا الخبير قال:

لبنــان عـايــشْ غيـر شــكـل ومـيزتـو إنّـو بتبـقى غيـر شـكل معيشــتو

وهَلْ غير شكل قمِّة وجودو من الأساس وهَلْ غير شكل من الأساس مصيبتو

 

خلاصةُ ما يعنيه الخبير والوزير، هو ذلك الذي عناه أفلاطون في كتابه «الجمهورية» حين قال «إنّ الدولة لا تصبح سعيدةً إلاّ إذا صاغَها فنّانون صياغة النمط الإلهي…»

أيْ: إنّ لبنان طاقـةٌ متميّزة متوهِّجةٌ بالنُخَـب الفنيّـة والفكرية والأدبية، وذوي النبوغ والإختصاص، ومثلما تكون هذه الطاقةُ النخبويّة مصدرَ نهوضـه، تكونُ عند افتقادها مصدرَ مصائبه.

كونوا كما أنتُـمْ… فلم نكنْ كما كنّا، ولم نبـقَ كما نحن.

 

أين أصبح ذلك اللبنان؟ «عاصمة العالم الحضاري، وبنك الأدمغة»، كما وصفَـهُ الشيخ موريس الجميل..؟

أين أصبح لبنان الإنسان الذي كان بالعقل يسيِّرُ مرافق الحياة…؟ «والإنسانُ بالعقل يصبح إلهاً صغيراً» كما يقول أرسطو.

أين هو ذلك الإلـهُ الصغير…؟

 

كيف كان بلدنا «الغير شكل» يقف على قدميه معافى، وهو يفتقر إلى موارد إقتصادية وثرواتٍ طبيعية يقوم عليها إقتصاده…؟

 

نعم.. إنّ سهل البقاع وحـده يشكل ثروة طبيعية، وهو الذي كان يؤمّـنُ حاجاتٍ معيشيِّةً لجيش السلطنة العثمانية، حتى إنّ «بلودوين» قائد الحملة الصليبية الأولى حاصر مدينة بعلبك التي كانت تابعةً لحكم دمشق قبل محاصرة القدس، وأبى إلاّ أن يأخذ ثلث غلال سهل البقاع لتموين جيشه…

 

ولكن، إستطاع لبنان أن يحقّـق التوازن التجاري، بأنْ راح النخبويّون فيه يستفيدون من موقع لبنان المتوسطي، بحكمْ كونـه حلَقَـةً جغرافية محوريّـة، فوظَّفوا في مجال الخدمات: خبراتهم التجارية والعلميّة والثقافية والإقتصادية، بما يفوق ثروات الأرض.

وكانت معالم لبنان التاريخية والأثرية والسياحية والمناخية مجالاً فسيحاً للإستثمار والإزدهار.

 

ولكن، حين رحنا نصدّر الأدمغة النابغة ونستورد الأدمغة المعلّبة…

 

وحين راحت موجات الهجرة تجرف الألوف من ذوي الإختصاصات وخريجي الجامعات إلى ديـار الإغتراب فكانوا في أيِّ بـلادٍ حلّـوا يخلقون فيها لبنان الناهض «غير شكل» فيما بلدهم الأمّ أصبحتْ «غير شكل مصيبتو».

 

إلاّ أنّ نواهض التاريخ، ولا مـرّة كانت في لبنان تتوقّف عند فجائع الزمان… ولا مـرّة كان النبوغ اللبناني يَعرفُ الموتَ بالوكالة.

 

ها هو لبنان في أخطر أزماته ضراوةً ينتفض من تحت الركام، يحمل طموحه على كتفيـه معتمداً على ما تفوّق بـه من قدرات لإحياء صناعته الوطنية والإقتصاد الذاتي والإنتاج المحلّي، في مسيرة تنمويّـةٍ تتدّرجُ في مراقي الإنتعاش إكتفاءً وتصديراً.

 

لا تخافوا… سيظلّ لبنان غير شكل.