التوافق بين القوتين الاكبر شعبياً والاكثر تأثيراً في الوسط المسيحي، لم ينزل على ما يظهر، برداً وسلاماً، على قلب الشريك المسلم، واعني هنا بالشريك المسلم، القيادات السياسية والروحية، وليس الناس والمواطنين الطيبين الشرفاء. من هنا كانت ردة الفعل، على التفاهم والتوافق بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، مرحبة بحذر في الشكل، ومنزعجة في العمق من توصل حزبين يملكان اكثرية مسيحية طاغية في بيئتهما، الى طي صفحة الماضي المؤلمة وتتويجها باعلان نيات بداية، وبتفاهم لاحقاً على تبنّي حزب القوات اللبنانية ترشح العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، واستكماله بالتعاون والتحالف، في صياغة القوانين، وخوض الاستحقاقات الدستورية من انتخابات بلدية واختيارية ونيابية، حيث يمكن التعاون والتحالف، والانفتاح على الجميع من دون استثناء او تهميش احد، وقد تم التعبير عن هذا الانزعاج في اكثر من مناسبة واكثر من موقف، الا انه لم يأخذ شكله الواضح الصادم سوى مؤخراً في تصريح لاحدهم انه «يرفض العودة الى المارونية السياسة» في وقت لم يطالب احد من القيادات المسيحية او يدعو الى العودة الى الماضي، ما يعني ان الهدف من التصريح، كان تعبيراً عن انزعاج من مطالبة التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية باحترام مفهوم الدستور، ومندرجات الميثاقية بوطنية، في الادارة وفي الرئاسة، وفي الحكومة ومجلس النواب، ولم يتأخر كثيراً مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، منتهزاً فرصة استقبال النائب سليمان فرنجية المرشح من قبل تيار المستقبل الى رئاسة الجمهورية، للانقضاض على مفهوم «المرشح القوي في بيئته» وهو المفهوم والعرف اللذان يحكمان منصب رئاسة مجلس النواب، المطوبة لمن تختاره الاكثرية الشيعية، ولرئاسة الحكومة لمن تختاره الاكثرية السنية، معتبراً ان منصب رئاسة الجهمورية هو لجميع اللبنانيين وليس من حق الاكثرية المسيحية ان تختار الرئيس، بل هي شريك مثلها مثل غيرها من الطوائف الاخرى، الامر الذي لم يطبّق ولن يطبّق لدى الشيعة والسنّة، وعندما فرض نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة بدلاً من سعد الحريري ثارت طرابلس وبيروت والمناطق السنية على هذا الفرض، وكان رجال الدين في طليعة من ثاروا ورفضوا.
***
في الحقيقة، كان يمكن للمسيحيين خصوصاً، وللبنانيين عموماً، ان يتفهموا ادانة المارونية السياسية، لو ان اتفاق الطائف كان افضل منها، فدفع لبنان خطوات الى الامام في 26 سنة من عمر هذا الاتفاق، ولا بأس من ان نقارن بين الامن والتربية والاقتصاد، والاستقرار، والثقافة، والحريات، والديموقراطية، والليرة، وجواز السفر والقضاء، والمؤسسات، التي شهدتها عهود المارونية السياسية، قبل ان يدمرها الفلسطينيون والسوريون والمتحالفون معهم من لبنان والدول العربية وغيرها، ويحلّون محلها الجريمة والجهل، وانعدام الاستقرار، وانهيار العملة، وتسلط القوة، والفساد المستشري، والفراغ والتعطيل.
لم تكن يوماً المارونية السياسية بالنسبة الى المسيحيين بمثابة امرأة قيصر، ولم تكن تعبيراً عن طموحهم لنظام اكثر تقدماً وحداثة، ولكن ان يأتي اليوم من ينتقدها في هذه التعاسة التي يعيشها اللبنانيون، فهذا ظلم وانكار لحقيقة الامور، واذا كان تيار المستقبل متمسكاً بالنائب سليمان فرنجية، وحزب الله متمسكاً بالعماد ميشال عون، فهذا حق من حقوقهم، ولا ينازعهم فيه منازع، ولكن تعالوا نسقط اتفاق الطائف، كما تم اسقاط نظام الصيغة اللبنانية، ونذهب جميعاً الى نظام برلماني ديموقراطي حقيقي وليس صورياً، ونظام مدني خارج القيود والتشريعات الطائفية والمذهبية، وعندها فقط نلعن معكم المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية، ونبني لبنان المدني العلماني المؤمن القائم على معادلة، الاكثرية تحكم والاقلية تعارض، من دون ميثاقية فارغة، ولا فيتوات متبادلة، ولا ثلث او ربع او نصف معطل، ولا اكثرية ملزمة في هذه الطائفة او هذا المذهب.
فمن يقدم حيث لا يجرؤ الآخرون على طرح نظام جديد قادر على الاستمرار، والحياة، بدلاً من الانظمة التي جرّبها لبنان منذ الاستقلال حتى اليوم، وكان اسوأها على الاطلاق، نظام اتفاق الطائف، لان ما طبّق منه طبق كيدياً، والصالح منه لم يطبق ولن يطبق بوجود نظام الانانية السياسية الحالي.