ان يصبح بوريس جونسون رئيسا للوزراء في بريطانيا، يشكّل دليلا على مدى تدهور أوضاع ما كان يسمّى «الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها». لا يمتلك جونسون من صفات السياسي الناجح سوى الانتهازية. الأكيد ان الانتهازية ليست كافية لاخراج المملكة المتحدة من المأزق الذي وجدت نفسها فيه منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي (بريكست). لا بدّ هنا من التذكير بان هذا الاستفتاء كان في مثل هذه الايّام من العام 2016. كلّ ما يمكن قوله الآن انّ بوريس جونسون الذي وقف مع خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ليس حلّا. سيظهر ذلك بعد اسابع قليلة عندما سيصبح زعيما لحزب المحافظين وبالتالي رئيسا للوزراء.
كان بوريس جونسون، وهو من أصول تركية، عمدة للندن. لم يحقّق نجاحا يذكر في اثناء شغله هذا الموقع. انتقل بعد ذلك كي يصبح من مؤيدى «بريكست» رافعا شعار الوقوف امام تدفق مواطني دول أوروبا الشرقية التي انضمت الى الاتحاد الاوروبي على سوق العمل في بريطانيا.
في غياب السياسيين القادرين على لعب دور قيادي والاعلان صراحة انّ «بريكست» ليس حلّا، بل هو مشكلة غير قابلة للحل من دون التخلّص من نتائج الاستفتاء، ستبقى المملكة المتحدة في الدوران على نفسها. الواقع انّه ليس اصعب من الإحاطة بالوضع البريطاني وانعكاساته في ضوء نتائج الاستفتاء الذي انتصر فيه، قبل ثلاث سنوات، مؤيدو خروج المملكة المتحدة (إنكلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا الشمالية) من الاتحاد الاوروبي بعد ارتباط دام ثلاثة وأربعين عاما. كان هذا الارتباط الذي بدأ في العام 1973 اقرب الى زواج بين شخصين تربط بينهما المصلحة المشتركة قبل ايّ شيء آخر. قرّر البريطانيون ترك الاتحاد الاوروبي من دون ان يفكّروا بما الذي سيفعلونه في اليوم التالي.
الأكيد ان بوريس جونسون وشعاراته الشعبوية ليس حلّا. السؤال لا يزال نفسه منذ صدور نتائج الاستفتاء. ما مستقبل المملكة المتحدة بعد هذا الخروج، خصوصا انّ أكثرية في اسكتلندا تجاوزت الستين في المئة من الناخبين وقفت ضده، كما عارضته أكثرية في ايرلندا الشمالية وفي المدن الكبرى وفي لندن نفسها حيث هناك أصوات تنادي بانفصال العاصمة عن إنكلترا؟ في النهاية، انّ الارتباط بالاتحاد الاوروبي لعب دورا مهمّا في جعل لندن مدينة استثنائية واحد اكبر المراكز المالية في العالم. باتت لندن تعتبر عاصمة العالم بفضل التحولات التي طرأت عليها في السنوات الثلاثين الماضية بعد انفتاحها على العالم.
لا بدّ من مجموعة من الملاحظات على هامش الاستفتاء الذي كان ويظلّ حدثا تاريخيا بكلّ المقاييس خصوصا انّه لم يهز اركان المملكة المتحدة فحسب، بل هز أيضا الاتحاد الاوروبي وكلّ الأسواق المالية العالمية.
في مقدّم الملاحظات التي يمكن ان تساعد في الخروج بتصوّر لما بعد الاستفتاء انّ بريطانيا، كمجتمع وطبقة سياسية ومجموعات مقاطعات تمتلك كلّ منها مقدارا كبيرا من الاستقلال تشكل المملكة المتحدة، تبدو منقسمة على نفسها على كلّ المستويات. هناك انقسام، حتّى، داخل الحزبين الكبيرين، المحافظون والعمال.
كانت هناك حرب من داخل حزب المحافظين على رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي سارع الى تقديم استقالته، مباشرة بعد الاستفتاء، كي تخلفه تيريزا ماي في وقت كان بوريس جونسون يسعى الى خلافة كاميرون. لم يخلف جونسون كاميرون على الرغم من انّه قاد حربا شعواء على رئيس الوزراء الذي لم يحسن إدارة حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي. لم يستطع كاميرون حتّى تقديم عرض مقنع يتضمّن شرحا للاتفاقات التي توصّل اليها مع الاتحاد قبل فترة قصيرة من الاتفاق. مكّنت هذه الاتفاقات المملكة المتحدة، التي لم توقع اصلا الاتفاق في شأن العملة الاوروبية (اليورو) ولا ذلك المتعلّق باتفاق شنغن الخاص بالتأشيرة الموحّدة، من ان تكون صاحبة وضع خاص يعفيها من بعض الالتزامات.
يبدو انّ بريطانيا التي عرفناها انتهت يوم الثالث والعشرين من حزيران ـ يونيو 2016، عندما اعلن زعيم اليمين المتطرّف نايجل فاراج (رئيس حزب الاستقلال للمملكة المتحدة) ان بلاده «استعادت استقلالها». كان فاراج الحليف غير المباشر لبوريس جونسون يتحدّث عن بريطانيا جديدة تعتمد سياسة مختلفة في شأن الهجرة اليها، بما في ذلك الهجرة من دول الاتحاد الاوروبي الأخرى. ليس ما يشير الى انّ فاراج يأبه بالاضرار التي ستلحق بالاقتصاد البريطاني في كلّ المجالات. اطلق شعارات تستهوي الطبقات الفقيرة والمتوسطة، خصوصا في الريف البريطاني. من الواضح ان عودة فاراج الى الواجهة في 2019 لا تبشر بالخير، بمقدار ما تؤكّد عمق المأزق البريطاني.
في الواقع، ركّز مؤيدو الخروج من الاتحاد الاوروبي على استمالة الطبقات المقيمة في الريف وعلى خطورة تدفّق المهاجرين الجدد، خصوصا على المدارس الحكومية وكلّ ما هو مرتبط بالتقديمات الاجتماعية مثل النظام الصحّي على سبيل المثال. كشفت الأرقام زيف كلّ ادعاءاتهم، خصوصا ان لا مجال للاستغناء عن الاوروبيين الشرقيين كيد عاملة رخيصة في بريطانيا. لم يتراجع زعيم اليمين المتطرّف عن حدّة خطابه بعد اعلان نتائج الاستفتاء، فيما سعى بوريس جونسون بانتهازيته المعروفة الى طمأنة مواطنيه الى ان لا قطيعة تامة مع أوروبا بقوله: «لن تدير بريطانيا ظهرها لاوروبا في يوم من الايّام». ولكن ماذا اذا ادارت أوروبا ظهرها للمملكة المتحدة… او ما سيبقى منها؟ كان ذلك في 2016. في 2019، يبدو بوريس جونسون مستعدا لادارة ظهره لاوروبا والخروج من الاتحاد في 31 تشرين الاوّل – أكتوبر المقبل حتّى في ظل غياب اتفاق معتمدا على الدعم الذي وفّره له الرئيس دونالد ترامب الذي لا يخفي رغبته في رؤية المملكة المتحدة خارج أوروبا. فجأة، بقدرة قادر، نسي العمدة السابق للندن انه لم تعد توجد شركة سيارات واحدة يمكن اعتبارها بريطانية مئة في المئة وان كلّ الشركات الكبيرة، بما في ذلك «رولز رويس» و»بنتلي» و»جاغوار» هي ملك شركات اجنبية، لكنّها لا تزال تصنّع في الأراضي البريطانية بيد عاملة موجودة في البلد؟ اكثر من ذلك، هل نسي بوريس جونسون ان مصانع كثيرة بدأت ترحل عن بريطانيا؟
في النهاية، ان بوريس جونسون جزء من المشكلة التي خلقتها بريطانيا لنفسها والتي لا مخرج منها سوى بالتراجع عن الخروج من الاتحاد الاوروبي. هذا يتطلّب وجود زعامات سياسية قادرة على قيادة الشارع ومواجهة الغوغاء، تماما كما فعلت مارغريت تاتشر في سبعينات القرن الماضي. مؤسف ان بوريس جونسون لا يستطيع ان يكون اكثر من سياسي انتهازي في زمن تعاني فيه بريطانيا، كما تظهر الأرقام، من كل أنواع المشاكل، بما في ذلك ان يكون صديق خان عمدة لندن وان يكون جريمي كوربن زعيم حزب العمال…