لم تكن بريطانيا تاريخياً أوروبية بالكامل، وغالباً ما كان لمشاركتها في الاتحاد الأوروبي خصوصية معبّرة. لم تنضم بريطانيا الى منظومة اليورو، وهي الخطوة المتقدمة والأكثر جرأة باتجاه التكامل الاقتصادي الأوروبي، ولا الى اتفاقية شنغن الأمنية.
جزيرة كبيرة في البحر الأوروبي وإمبراطورية غابت عنها الشمس بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن بريطانيا مَنبِت الحلم الأوروبي الذي راود المؤسسين، دولاً وشخصيات، أبرزهم رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها، روبير شومان (Schuman)، المولود في اللوكسمبورغ. «اعلان شومان» في 1950 شكّل الانطلاقة الأولى للمشروع الأوروبي.
لم تقطع بريطانيا حبل السرّة بالكامل مع أميركا، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. وهي غالباً ما كانت أقرب الى واشنطن منها الى بروكسل في السياسة الخارجية، وآخرها الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 الذي دعمته حكومة طوني بلير وعارضته دول أوروبية، خصوصاً فرنسا. وكانت بريطانيا الأقرب الى الموقف الأميركي في عمليات الحلف الاطلسي العسكرية في ليبيا في 2011. بريطانيا تعتمد السياسات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، الا أن لندن كانت وستبقى عاصمة اميركا الاقتصادية في اوروبا، قبل العولمة وبعدها.
لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي تداعيات مالية واقتصادية لا سيما في المدى المنظور. كما أن التوجه الانفصالي سيزداد انتعاشا في بعض الدول الاوروبية وطبعاً في اسكوتلندا التي صوّتت الى جانب بقاء بريطانيا في الاتحاد، وقد تصوّت باتجاه الانفصال عن المملكة المتحدة في الاستفتاء المرتقب.
سيتم الطلاق بين بريطانيا والأسرة الاوروبية بانتظام، وقد يستغرق بعض الوقت، بلا تخوين أو تدجين. ففي حين أن الجسر البحري بين بريطانيا وفرنسا لن يقفل، فإن الجسر تصدّع بين جيل كبار السن في بريطانيا وجيل الشباب. الاول خَبِر المجد البريطاني بمعزل عن اوروبا والثاني ارتبط بأوروبا ويرى مصالحه وطموحاته في المساحة الأوسع التي يؤمّنها الاتحاد الاوروبي بأقل الضوابط الممكنة.
يأتي الانفصال البريطاني مُثقلا بسلسلة ازمات عصفت بالاتحاد الاوروبي، ابرزها الازمة الاقتصادية في اليونان وتدفق اللاجئين. ولولا ألمانيا القادرة والمتمسكة بأوروبا المتحدة وفرنسا الداعمة، لكان الاتحاد تفكك. في المحصلة، الاتحاد الاوروبي تجربة رائدة في التكامل الطوعي بين دول مستقلة، والقرار النهائي في شؤون الحكم والخيارات الكبرى يعود الى الشعب.
التململ يزداد في اوروبا القديمة والجديدة، بعد انضمام عدد كبير من دول اوروبا الشرقية والوسطى الى الاتحاد منذ انتهاء الحرب الباردة. ولو لم تكن اوروبا الغربية ديموقراطية، لَمَا تحولت دول المنظومة الشيوعية السوفياتية في اوروبا الشرقية بالضرورة الى الديموقراطية. وحتى دول اوروبا الجنوبية ـ اليونان، اسبانيا والبرتغال ـ انتلقت في مرحلة سابقة الى الديموقراطية وكانت اوروبا الغربية القاطرة التي فَتحت طريقها وثبتّت خطاها.
وظيفة الاتحاد الاوروبي على المحكّ ليس فقط بسبب الانفصال البريطاني بل بسبب المشاكل التي عصفت به وصعوبة ايجاد ارضية مشتركة بين 28 دولة تحترم القوانين وتلتزم الديموقراطية. دول الاتحاد الاوروبي تبقى في نهاية المطاف مستقلة وسيدة القرار. الاتحاد الاوروبي كونفدرالية معرّضة للاهتزاز، مثلما هي حال اي نظام سياسي متعدد الرؤوس والتوجهات.
قوة الاتحاد الاوروبي وضعفه تكمن في الآلية الديموقراطية لاتخاذ القرار وفي أن علة وجوده منطلقها براغماتي، أي غير ايديولوجي. فلا مشاريع وحدة قومية مطروحة في الاتحاد الاوروبي، والدين يخص المؤمنين لا الدولة او الحاكم، ولا عدو مشتركاً يجمع او يفرّق، بل مصالح متنوعة ونظام قِيَم ليبرالي وإرادة في ايجاد الحلول السلمية للنزاعات. هاجس تجنّب الحروب والنزاعات المسلحة كان في اساس قيام فكرة اوروبا المتحدة بعد حربين عالميتين انطلقت شرارتهما من اوروبا. اما المظلّة الامنية في اوروبا فهي اطلسية بقيادة اميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سواء خرجت بريطانيا من الاتحاد أو بقيت.
لن ينهار الاتحاد الاوروبي بسبب خروج بريطانيا وستبقى حليفة اوروبا وأميركا. سويسرا دولة اوروبية نافذة ومحايدة. وستظلّ اوروبا متحدة حول نظام قيم لا يمكن كسره، لاسيما في «اوروبا القديمة»، حتى وإن جاءت الى الحكم احزاب راديكالية لاي جهة انتمت. الا ان الانطلاقة الاخيرة للاتحاد الاوروبي مع معاهدة ماستريخت في مطلع التسعينيات فقدت زخمها، ولا بد من اعادة تصويب اهداف الاتحاد والامكانات المتاحة بواقعية واتزان.