Site icon IMLebanon

استفتاء ستدفع بريطانيا ثمنه غالياً

ليس أصعب من الإحاطة بالوضع البريطاني وانعكاساته في ضوء نتائج الاستفتاء الأخير الذي انتصر فيه مؤيدو خروج المملكة المتحدة (إنكلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا الشمالية) من الاتحاد الاوروبي بعد ارتباط دام ثلاثة وأربعين عامًا. كان هذا الارتباط أقرب الى زواج بين شخصين تربط بينهما المصلحة المشتركة قبل أيّ شيء آخر. قرّر البريطانيون ترك الاتحاد الاوروبي من دون أن يفكّروا بما الذي سيفعلونه في اليوم التالي. إنّهم أشبه بشخص ألقى بنفسه من طائرة من دون أن يحمل مظلة تؤمّن الهبوط الآمن. هل ينفع الندم بعد فوات أوانه؟

ما مستقبل المملكة المتحدة بعد هذا الخروج، خصوصاً أنّ أكثرية في اسكتلندا تجاوزت الستين في المئة من الناخبين وقفت ضده، كما عارضته أكثرية في إيرلندا الشمالية وفي المدن الكبرى وفي لندن نفسها حيث هناك أصوات تنادي بانفصال العاصمة عن إنكلترا؟ في النهاية، إنّ الارتباط بالاتحاد الاوروبي لعب دوراً مهمّاً في جعل لندن مدينة استثنائية وأحد أكبر المراكز المالية في العالم. باتت لندن تعتبر عاصمة العالم بفضل التحولات التي طرأت عليها في السنوات الثلاثين الماضية بعد انفتاحها على العالم.

لا بدّ من مجموعة من الملاحظات على هامش الاستفتاء الذي يظلّ حدثاً تاريخياً بكلّ المقاييس خصوصاً أنّه لم يهز اركان المملكة المتحدة فحسب، بل هز أيضًا الاتحاد الاوروبي وكلّ الأسواق المالية العالمية في وقت هبطت العملة البريطانية الى ادنى مستوى منذ العام 1985.

في مقدّم الملاحظات التي يمكن أن تساعد في الخروج بتصوّر لما بعد الاستفتاء أنّ بريطانيا، كمجتمع وطبقة سياسية ومجموعات مقاطعات تمتلك كلّ منها مقداراً كبيراً من الاستقلال تشكل المملكة المتحدة، تبدو منقسمة على نفسها على كلّ المستويات. هناك انقسام، حتّى، داخل الحزبين الكبيرين، المحافظون والعمال. 

كانت هناك حرب من داخل حزب المحافظين على رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي سارع الى تقديم استقالته التي ستصبح نافذة في تشرين الاوّل المقبل عندما ينعقد المؤتمر العام للحزب ويختار زعيماً جديداً له يخلف كاميرون في موقع رئيس الوزراء. بين الذين انقضّوا على كاميرون حليفه السابق بوريس جونسون الذي كان في الماضي القريب عمدة لندن. يسعى جونسون حالياً الى خلافة كاميرون في «10 داونينغ ستريت». لم يعد ذلك خافياً على احد. قاد العمدة السابق للندن حرباً طاحنة على رئيس الوزراء الذي لم يحسن إدارة حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي. لم يستطع كاميرون حتّى تقديم عرض مقنع يتضمّن شرحاً للاتفاقات التي توصّل اليها مع الاتحاد قبل فترة قصيرة. مكّنت هذه الاتفاقات المملكة المتحدة، التي لم توقع أصلاً الاتفاق في شأن العملة الأوروبية (اليورو) ولا ذلك المتعلّق باتفاق شينغن الخاص بالتأشيرة الموحّدة، من أن تكون صاحبة وضع خاص يعفيها من بعض الالتزامات.

يبدو أنّ بريطانيا التي عرفناها انتهت يوم الثالث والعشرين من حزيران 2016، عندما أعلن زعيم اليمين المتطرّف نايغل فراج (رئيس حزب الاستقلال للمملكة المتحدة) أن بلاده «استعادت استقلالها». كان فراج الحليف غير المباشر لبوريس جونسون يتحدّث عن بريطانيا جديدة تعتمد سياسة مختلفة في شأن الهجرة اليها، بما في ذلك الهجرة من دول الاتحاد الاوروبي الأخرى. ليس ما يشير الى أنّ فراج يأبه بالاضرار التي ستلحق بالاقتصاد البريطاني في كلّ المجالات. أطلق شعارات تستهوي الطبقات الفقيرة والمتوسطة، خصوصاً في الريف البريطاني. 

في الواقع، ركّز مؤيدو الخروج من الاتحاد الاوروبي على استمالة الطبقات المقيمة في الريف وعلى خطورة تدفّق المهاجرين الجدد، خصوصاً على المدارس الحكومية وكلّ ما هو مرتبط بالتقديمات الاجتماعية مثل النظام الصحّي على سبيل المثال. لم يتراجع زعيم اليمين المتطرّف عن حدّة خطابه بعد إعلان نتائج الاستفتاء، فيما سعى بوريس جونسون، وهو من أصول تركية، الى طمأنة مواطنيه الى أن لا قطيعة تامة مع أوروبا بقوله: «لن تدير بريطانيا ظهرها لاوروبا في يوم من الايّام». ولكن ماذا اذا ادارت أوروبا ظهرها للمملكة المتحدة… او ما سيبقى منها؟ 

يظهر أنّ جونسون بدأ يستوعب معنى الخروج من الاتحاد الاوروبي والنتائج السلبية التي ستترتب على هذه الخطوة في بلد يعتبر المستفيد الاوّل من العولمة. هل نسي العمدة السابق للندن انه لم تعد توجد شركة سيارات واحدة يمكن اعتبارها بريطانية مئة في المئة وأن كلّ الشركات الكبيرة، بما في ذلك «رولز رويس» و»بنتلي» و»جاغوار» هي ملك شركات اجنبية، لكنّها لا تزال تصنّع في الأراضي البريطانية بيد عاملة موجودة في البلد؟

في الوقت ذاته، بدا أن حزب العمّال الذي أيّد زعيمه جيريمي كوبرن البقاء في أوروبا، لم يستطع السيطرة على قواعده. معظم المنتمين الى الحزب صوتوا مع الخروج من الاتحاد. وهذا سيترك كوبرن اليساري في وضع لا يحسد عليه وسيحمل الحزب، المنقسم على نفسه، الى البحث عن زعيم جديد في مؤتمره المقبل في تشرين الاوّل أيضاً.

سيكون على المفاوضات التي ستجرى بين الحكومة الجديدة، التي ستشكل بعد مؤتمر حزب المحافظين، والاتحاد الاوروبي معالجة مسائل كثيرة. ما وضع الاوروبيين المقيمين في بريطانيا؟ هل سيتوجب على هؤلاء الحصول على رخص عمل؟ ما وضع البريطانيين المقيمين في أوروبا؟ هناك مئات آلاف البريطانيين الذين يقيمون في اسبانيا. أكثرية هؤلاء من المتقاعدين الذين يجدون تكاليف الحياة في اسبانيا تتناسب والرواتب التي يتقاضونها. تشير إحصاءات رسمية الى ان عدد هؤلاء يصل الى نحو سبعمئة الف. هناك ايضاً مئتا الف بريطاني يقيمون في فرنسا ويستفيدون من الخدمات الصحّية فيها مثلاً.

ثمّة ملاحظتان اخيرتان تستأهلان التوقف عندهما. تتعلّق الأولى بإصرار اسكوتلندا على تنظيم استفتاء في شأن استقلالها وبقائها في الاتحاد الاوروبي. هذا ما اكّدته رئيسة الوزراء نيكولا ستورغن في مؤتمر صحافي عقدته بعيد إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني. ايّ مستقبل للمملكة المتحدة في غياب اسكوتلندا التي ستسير ايرلندا الشمالية على خطاها؟

امّا الملاحظة الأخرى، فهي متعلّقة بالشباب البريطاني الذي أيّد بنسبة كبيرة، تصل الى سبعين في المئة، البقاء في أوروبا. تبيّن ان هناك انقساماً آخر بين الشباب البريطاني من جهة والمتقدّمين في السنّ من جهة أخرى في بلد اعتاد فيه الشاب على العيش في المكان الذي يختاره في أوروبا من دون قيود من أيّ نوع.

هل يكفي في السنة 2016 رفع العلم البريطاني وإطلاق شعارات ذات طابع عنصري لتأمين مظلة هبوط آمنة من ارتفاع شاهق؟

بدأ البريطانيون يكتشفون أن ذلك ليس كافياً وأنّ الطلاق مع أوروبا مسألة في غاية التعقيد، خصوصاً في ظل المشاكل التي يعاني منها الاتحاد الاوروبي نفسه الذي عملت بريطانيا في الماضي على توسيعه كي لا تكون هناك قوّة مهيمنة فيه نواتها الدول الست المؤسسة، أي المانيا وفرنسا وإيطاليا ومجموعة بنيلوكس (بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا).

ستدفع المملكة المتحدة، التي وقف أكثر من نصفها بقليل مع الخروج من أوروبا، غالياً ثمن نتائج الاستفتاء، لا لشيء سوى لأنّ الازدهار البريطاني، عائد في معظمه، الى أن العلاقة بأوروبا والى حسن إدارة هذه العلاقة والاستفادة منها ولا شيء آخر غير ذلك…