بعد إقرار مرسومي النفط، وارتداء الحكومة عباءة الانجازات السريعة، حان الوقت لمواجهة ملف إقرار الموازنة العامة الغائبة منذ العام 2006، وهو تحدٍ أشد تعقيداً من سواه، لأنه لا يحتمل الصفقات وتقسيم الحصص، ويحتوي على مجموعة كبيرة من الألغام.
مع مرور السنوات، أصبحت مشاريع الموازنة العامة أشبه بسراب. وزراء المال الذين تعاقبوا حاولوا جميعا تبرئة ساحتهم من «جريمة» الانفاق بلا موازنة، من خلال إعداد مشاريع موازنة يتم تقديمها الى الحكومة، وتبقى مجرد مشروع.
هكذا تكدّست في الأدراج مشاريع الموازنات العامة من سنة الى سنة، من دون ان تتحوّل المشاريع الى موازنات. وقد دخلت السياسة على الخط، وظهرت مشكلة ما يُعرف بالـ11 مليار دولار، والتي حالت دون إنجاز قطع الحساب، وهو نظرياً ممر الزامي لاقرار موازنة جديدة.
السؤال اليوم، ما الذي تغيّر لكي يصبح في الامكان إقرار موازنة جديدة؟ وهل بات ممكناً إنجاز قطع الحساب؟
في هذه النقطة بالذات، لا يبدو ان الموازنة، وفي حال تمّ التوافق على إقرارها سوف تحلّ هذه الأزمة، بل من المرجّح اعتماد طريقة تصفير الحسابات، والبدء من جديد، وهو أمر منطقي في الظروف السياسية المستجدة، والتي لم تعد تستدعي توظيف هذا الملف المالي في الاستثمار السياسي.
لكن المشاكل لن تقف عند هذا الحد، لأن المعوقات المتبقية ليست أقل شأنا، ومن ضمنها مسألة الأرقام التي سيتم ايرادها في مشروع الموازنة. وقد بات معلوما ان الانفاق ارتفع بنسب كبيرة، مقابل تراجع الايرادات الامر الذي أدّى الى أزمة مالية ضاغطة تزداد خطورة مع الوقت.
وفيما كان الدين العام قد بلغ 64 مليار دولار في نهاية 2013، فقد ارتفع الى حوالي 75 مليار دولار في نهاية 2016، اي بمعدل 3.7 مليار دولار سنويا. واللافت ان الدين ارتفع حوالي 6 مليارات في العامين 2014 و2015، في حين ارتفع حوالي 5 مليارات في العام 2016، بما يؤشر الى حركة نمو سريعة للدين، قد تصبح خارج السيطرة في حال الاستمرار على هذا النحو.
هذا الواقع يستدعي زيادة الايرادات، بما يؤشّر الى اضطرار الحكومة الى فرض رسوم وضرائب جديدة في مشروع الموازنة للعام 2017. وبما ان العهد الجديد، لا يستسيغ أن يَصدُم الرأي العام بخطوات مماثلة غير شعبية، من المرجّح ان يتم اللجؤ الى حل آخر يقضي بتضمين الموازنة ملف سلسلة الرتب والرواتب. وبهذه الطريقة، يصبح في الامكان، شعبياً، تقديم الضرائب والرسوم الجديدة على طبق «السلسلة».
لكن المشكلة أن المناخ السياسي العام الجيد، والذي يختلف ربما عن المناخ السابق الذي لم يكن يسمح بخطوة من هذا النوع، لا يعني فعليا ان الارقام تغيرت، بل ان التغيير الوحيد هو نحو الاسوأ.
على سبيل المثال، كان حجم الدين العام على الناتج المحلي في 2011، حوالي 134 في المئة. هذه النسبة ارتفعت في 2016 الى حوالي 150 في المئة.
كذلك فان كلفة القطاع العام ارتفعت بنسب مقلقة، بسبب التوظيف العشوائي، وبسبب نمو حجم تعويضات المتقاعدين، والتي زادت من 890 مليار ليرة في 2008 الى 1900 مليار ليرة في نهاية 2013، وارتفعت حاليا الى رقم قياسي جديد سيتحدّد حجمه في الايام المقبلة بعد صدور التقرير السنوي عن وزارة المالية.
في النتيجة، وفي حال إقرار سلسلة الرتب والرواتب من ضمن الموازنة، بالتزامّن مع سلة من الضرائب الجديدة لتمويل السلسلة، فهذا يعني
تحميل كل عائلة لبنانية حوالي ألفي دولار من الضرائب والرسوم سنوياً، وفق حسابات الرئيس فؤاد السنيورة الذي قال هذا الكلام في المجلس النيابي.
هذه المعادلة الدقيقة هي التي تجعل اقرار مشروع الموازنة من الامور الحسّاسة التي ينبغي ان تواجهها الحكومة. وقد يكون من الأفضل انتظار بدء الترجمة الرقمية لمناخ التفاؤل السائد حاليا في البلد، قبل الإقدام على أي خطوة من هذا النوع.