Site icon IMLebanon

موازنة “دياب – الحريري” ساقطة… مرّتين

 

 

تخفيض العجز وهميّ ولا “يغشّ” عاقلاً

ليس غريباً أن يكتنف الغموض وعدم اليقين أرقام موازنة العام 2020 التي أقرّها المجلس النيابي الاثنين الماضي على وقْع صيحات حناجر الثوّار المتظاهرين وصخبهم وغضبهم، واشتباكاتهم مع القوى الأمنية في محيط ساحة النجمة. فالموازنة اليتيمة هذه أعدّتها حكومة استقالت تحت ضغط الشارع، أو بالأحرى، إنّ الشعب، مصدر كلّ السلطات، قد أسقط الحكومة وموازنتها. وعليه ليست هذه الموازنة المستمرة في خدمة نظام المحاصصة وتكريسه “شرعيّة”، تماماً كالبرلمان الذي أقرّها إثر فقدانه المشروعية الشعبية بعد 17 تشرين المجيد.

لا يعود الغموض إلى الأجواء المضطربة التي انعقدت في ظلها جلسة البرلمان، ولا حتى إلى السرعة القياسية التي أقرّت بها الموازنة للدواعي الأمنية، بل إلى التطوّرات السياسية والاقتصادية والنقدية التي تتحكّم بالبلاد منذ مئة يوم ونيّف.

 

إنها أغرب الموازنات على الإطلاق في تاريخ لبنان الدستوري والمالي. فحكومة الرئيس سعد الحريري التي أعدّتها وأحالتها إلى مجلس النوّاب لم تعد موجودة. وهي لم تقدّم استقالتها فحسب، بل خلفتها حكومة جديدة قبل وصول مشروع الموازنة إلى مجلس النوّاب. أما الحكومة الجديدة برئاسة حسّان دياب فلم تستردّ المشروع من المجلس لدرسه وتعديله عند الاقتضاء حتى يُعتبر مشروعها وتدافع بالتالي عنه أمام نوّاب الأمّة، بل هي عرضته دون أن تتبنّاه ليبقى هذا المشروع “المُقونن”… لقيطاً، وبالتالي أضحت الموازنة ساقطة في الحالتين.

 

بالكاد تمكّنت كتلة “المستقبل” من أن تنتزع من فم الرئيس دياب اعترافاً خجولاً بتبنّي الموازنة، حتى لا تحمّل حكومته في المستقبل مشاكل الموازنة إلى الرئيس الحريري وحكومته المستقيلة.

 

أرقام… وحقائق

 

كل هذا يبدو بسيطاً عندما نصل إلى الأرقام، أي إلى تقديرات الإيرادات والنفقات. مشروع الحكومة السابقة يختلف بشكل فاقع عن الأرقام التي أقرّت في جلسة الاثنين. حتى أن النوّاب الذين حضروا الجلسة لا يعرفون بدقّة التقديرات التي صوّتوا عليها. ويمكن القول براحة ضمير إن النوّاب صوّتوا على مشروع لجنة المال والموازنة وليس على مشروع الحكومة. الى ذلك، فإنّ الموازنة بصيغتها هذه وبما تتضمّنه من نقل للعجز من الخزينة الى مصرف لبنان ستؤدي الى تشكيل ضغط هائل على قيمة سندات الخزينة وبالتالي على العملة الوطنية، والأخطر…على قدرة المواطن الشرائية. لذلك، ليس هذا “المشروع” إصلاحياً، ولا هو حتى هروب الى الأمام بل إنه وببساطة تهرّب من القيام بالإصلاحات وتسريع الانهيار.

 

عن الموضوع، يوضح عضو لجنة المال والموازنة النائب نقولا نحاس أنّ “الحكومة تنتج مشروع الموازنة وترسله الى اللجان حيث يُعدّل بوجود وزير المال. وتجدر الاشارة الى أنّ الارقام تختلف في كلّ من هذه المراحل وهذا الامر طبيعيّ، لكن المهم يبقى الصيغة النهائية التي صوّت فيها المجلس على المشروع. أما عن “واقعيّة” الارقام المذكورة في موازنة الـ2020، فمن الصعب أن تُحقق ما لم تعمل الحكومة الجديدة على تعديل جذري في البنية الاقتصادية. من هنا فإنّ عدم تصويتي على القانون ناجم عن عدم اقتناعي بقدرة الحكومة الجديدة على إدارة هذه الأزمة”.

 

فبين رحلة المشروع من رئاسة الحكومة إلى المجلس النيابي انقلبت البلاد رأساً على عقب. نزل اللبنانيون إلى الشارع في ثورة غير مسبوقة على الدولة والنظام، توقّف مصرف لبنان عن تزويد المصارف بالعملات الأجنبية، انهار سعر صرف الليرة الثابت منذ أكثر من عشرين سنة، خضع لبنان للرقابة على رؤوس الأموال، أقفلت المصارف أبوابها ثم فتحتها، قيادة عمليات المتاجرة بالعملات الأجنبية انتقلت من مصرف لبنان إلى محلات الصيرفة… ومن البديهي أن تؤثّر كل هذه التطوّرات على تقديرات نفقات الدولة وإيراداتها.

 

وهكذا تغيّرت أرقام الموازنة. والملفت أن تعديل الأرقام تمّ في لجنة المال والموازنة بحضور وزير المال، من دون الرجوع إلى مجلس الوزراء. في المشروع الأساسي كانت النفقات تبلغ 24 ألف مليار ليرة ضمنها 9.1 آلاف مليار لنفقات الفوائد بزيادة 883 مليار ليرة عن اعتمادات خدمة الدين في موازنة سنة 2019. ولم تحظ نفقات الاستثمار إلا بحصّة زهيدة بلغت 1400 مليار ليرة، أي أقلّ من مليار دولار.

 

الإيرادات الضريبية وغير الضريبية المقدّرة في الموازنة الأولية بلغت 19009 مليارات ليرة، أي أن مبلغ العجز كان مقدّرا بمبلع 5090 مليار ليرة. وبذلك فإن العجز في المشروع يمثّل 21.12% من النفقات و5.7% من الناتج المحلي القائم. لكن العجز يرتفع إلى 6590 مليار ليرة، أي 7.38% من الناتج، بعد إضافة سلفة الخزينة الى “كهرباء لبنان” وقيمتها 1500 مليار ليرة.

 

بعد التعديلات التي تمّت في لجنة المال والموازنة تغيّرت الأرقام واختلفت جذرياً عن المشروع الأساسي. أعادت وزارة المال النظر بتقديراتها فخفضت الإيرادات من 19 ألف مليار ليرة تقريباً إلى 13325 ملياراً، أي بنقص 6500 مليار عن مشروعها الأساسي. وبما أن تقدير النفقات هبط بدوره من 24 ألف مليار إلى 19732 ملياراً، ضمنها 1500 مليار سلفة للكهرباء، يكون بذلك عجز الموازنة وفقاً للأرقام الجديدة قد بلغ 12000 مليار ليرة، أو ثمانية مليارات دولار حسب السعر الرسمي للدولار.

 

العجز… الدائم

 

لكن العجز في المشروع الأساسي وفي المشروع المعدّل في لجنة المال يقلّ عن هذا العجز بمبلغ خمسة آلاف مليار ليرة، استناداً إلى الاتفاق الذي عقدته الحكومة المستقيلة مع مصرف لبنان وجمعية المصارف بالمساهمة هذه السنة فقط بتسليف الدولة بفائدة مخفّضة تصل إلى 1%.

 

في حديث إلى “نداء الوطن” أعرب نائب حاكم مصرف لبنان السابق د. غسان العيّاش عن شكّه “بإمكانية تنفيذ هذا الاتفاق مع مصرف لبنان والمصارف، عدا عن كونه غير ملائم، بما يرجّح ارتفاع العجز إلى ما يعادل ثمانية مليارات دولار على الأقلّ”. وفي هذا الشأن عدّد العيّاش الملاحظات التالية:

 

“أولاً: إنّ المصارف لم تعد قادرة على تقديم تسليف للدولة ينطوي على خسائر جديدة. ففي الأشهر الأخيرة هبطت قيمة ديون الدولة إلى النصف بسبب تعاقب التقارير السلبية من مؤسّسات التصنيف. وبما أن 70 بالمئة من موجودات المصارف موظّفة في مصرف لبنان ووزارة المال، فذلك يعني أن المصارف خسرت جزءاً مهمّاً من موجوداتها مما يرتّب عليها تحقيق زيادات كبيرة على رساميلها أو اللجوء إلى الاندماج. وهي بالتالي ليست في وضع يسمح لها بتقديم التضحيات.

 

ثانياً: مصرف لبنان ليس في وضع أفضل فهو يتكبّد خسائر جسيمة بسبب مساهماته في تمويل الدولة. وإذا حاول تلافي الخسائر الإضافية في تمويل الدولة خلال العام الجاري فسيلجأ على الأرجح إلى خلق النقد. إلا أن هذه الطريقة يدفع ثمنها المجتمع اللبناني لأنها مصدر خطير للتضخم وارتفاع الأسعار.

 

ثالثاً: أعربت الحكومة السابقة عن “بهجتها” بتأمين هذا التسليف الرخيص عن طريق النظام المصرفي. ورغم أن هذا التمويل ليس زهيداً، ويتحمّل وزره المجتمع ككل إضافة إلى النظام المصرفي، فلا شيء برأيي يدعو للاحتفال، لأن هذا التدبير ليس إصلاحياً على الإطلاق، وهو تدبير لمرّة واحدة يخفّف مشكلة المالية العامّة خلال العام الجاري فقط. هو طريقة أخرى من طرق الهروب إلى الأمام وشراء الوقت بأغلى الأثمان.

 

رابعاً: لا يمكن الركون إلى التقديرات والأرقام التي يتضمنّها قانون الموازنة هذا العام ليس بسبب الضغوط التي رافقت اعداد الموازنة وتقديمها السريع الى المجلس النيابي، بل بسبب الأزمة المالية والنقدية المتفجّرة. فلا نعرف الناتج المحلي القائم سنة 2020 في ضوء التوقعات السائدة بانكماش الناتج هذا العام. ونحن لا نستطيع بالتالي وضع تقديرات واقعية للإيرادات التي تعكس النشاط الاقتصادي العام، ولا تقديرات النفقات التي ستتأثر حكماً بالنشاط العام وخصوصاً بالتضخّم وتطوّر سعر الصرف.

 

خامساً: لذلك فإني أقترح اعتبار تقديرات الموازنة صالحة لأربعة أشهر فقط. مع احترام سنوية الموازنة كقاعدة دستورية، ينبغي ان ترجع الحكومة الى البرلمان بتصحيح كافة ارقام الموازنة مرّة كل أربعة أشهر حرصاً على الصدقية والشفافية ولجعل الرأي العام والمجلس النيابي والاسواق، وكذلك المؤسسات المالية الدولية، على بيّنة من واقع المالية العامّة في لبنان”.