النفط عنصر أساسي في الإقتصادات الحديثة، فهو يدّخل في تصنيع، تغليف أو نقل ما يزيد عن 95% من السلع والبضائع والخدمات التي نستهلكها. وبالتالي أخذ بعدًا إستراتيجيًا في سياسات الدول ليُشكّل السبب الأول في الحروب التي عاشها ويعيشها عالمنا المُعاصر، كما أن الدول المُنتجة للنفط أصبح لها مكانة مُهمّة على الساحة العالمية.
مئة مليون برميل الإستهلاك اليومي من النفط الذي يذهب بالدرجة الأولى للماكينة الإقتصادية (تصنيع، ونقل) ولكن أيضًا للاستهلاك المنزلي. هذا الأمر يجعل من السوق ذات حساسية مُرتفعة جدًا على عاملين رئيسيين: الأول العامل الجيوسياسي، والثاني العامل الإقتصادي (بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل التضخم في الولايات المُتحدة الأميركية والمضاربة وغيرها).
التوترّ الذي حصل أخيرًا في منطقة الشرق الأوسط على إثر إغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليّماني، أدّى إلى رفع الأسعار بشكلٍ ملحوظ في الأسواق التي تخوّفت من إندلاع حرب في منطقة الشرق الأوسط التي تُعتبر خزّاناً أساسياً للنفط. وبالتالي وبعد إنحسار التوترّ العسكري عادت هذه الأسعار وهبطت لتصل إلى مستويات مُتدنّية مع المخاطر التي تلفّ الإقتصاد العالمي نتيجة السياسة الحمائية التي يتبعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إلا أن نهار البارحة شهد حدثًا إقتصاديًا مُهمًا لسوق النفط تمثّل بتوقيع إتفاق تجاري بين الولايات المُتحدة الأميركية من جهة وبين الصين من جهة أخرى. هذا الحدث يأخذ أهميته من منطلق أن هاتين الدولتين تُشكّلان أكبر قوى إقتصادية في العالم وبالتالي فإن توقيع هذا الإتفاق يعني أن التبادل التجاري بين هذين الإقتصادين سيرتفع عملاً بالمبدأ المركنتايلي الذي ينص على أن الناتج المحلي الإجمالي يرتفع مع إرتفاع التبادل التجاري.
ينص الإتفاق على أن تقوم الصين بشراء أكثر من 50 مليار دولار أميركي من النفط الخام والغاز الطبيعي المسيّل ومنتجات نفطية أخرى من الولايات المُتحدة الأميركية على مدى عامين وهو ما يُشكّل المرحلة الأولى من الإتفاق على أن تقوم الولايات المُتحدة الأميركية بتخفيف سياستها الحمائية تجاه الصين.
الجدير ذكره أو الرئيس الأميركي فرض سلّة من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية المستوردة من قبل الولايات المُتحدة الأميركية مما خفّض عجز الميزان التجاري مع الصين من 419 مليار دولار أميركي في العام 2018 إلى 353 مليار دولار أميركي في العام 2019 أي ما يُقارب الـ 15%!
ويقول الرئيس الأميركي ترامب أن فرض هذه الرسوم سمح بخلق مئات الألوف من الوظائف وخلق آلاف الشركات الأميركية. ويستخدم هذه الحجّة في حمّلته الإنتخابية مع قرب الإنتخابات الرئاسية في الولايات المُتحدة الأميركية والتي ستكون في تشرين الثاني المقبل. وبحسب البيانات الإحصائية، إنخفضت البطالة في الولايات المُتحدة الأميركية من 4% في كانون الثاني 2019 إلى 3.5% في أيلول من العام نفسه.
هذا الأمر عزّز التفاؤل في الأسواق مع توقّعات بعودة النمو الإقتصادي إذا ما تمّت ترجمت هذا الإتفاق فعليًا على الأرض حيث أن هناك بعض المخاوف التي ما تزال موجودة لدى المُستثمرين من أن لا يتمّ الإلتزام به. وبالتالي إرتفع سعر برميل النفط في الأسواق كردّة فعل على هذا التفاؤل.
في الواقع، توقيع الإتفاق التجاري بين العملاقين الإقتصاديين ليس السبب الوحيد، فالبيانات الأميركية للـ«EIA» تُظهر إنخفاضًا أكبر من توقّعات الأسواق في المخزونات الإستراتيجية للولايات المُتحدة الأميركية وتُشير الأرقام إلى أن مخزونات النفط الإستراتيجية إنخفضت بقيمة 2.5 مليون برميل وهو أكثر مما توقّعته الأسواق – أي 500 ألف برميل. مما يعني أن الطلب على النفط في المرحلة المُقبلة سيكون أكبر من المُعتاد.
وكنتيجة لكل ما سبق ذكّره إرتفع سعر نفط بحر الشمال إلى 64.5 دولار للبرميل الواحد ونفط الخام الأميركي إلى 58.3 دولار أميركي للبرميل الواحد ومن المُتوقّع أن يُكمل مسيرة الإرتفاع ولكن ليس كثيرًا بحكم أن إرتفاع الأسعار سيُعزّز بدون أدنى شكّ شركات النفط الأميركية التي أصبحت تُسجّل أرقامًا قياسية مع إنتاج 13 مليون برميل في اليوم الواحد! الجدير ذكره أن كلفة إنتاج النفط في الولايات المُتحدة الأميركية أعلى من كلفة إنتاج النفط لدى دول الأوبك مما يعني أن أرباح شركات النفط الأميركية تزداد مع إرتفاع الأسعار وتنخفض مع إنخفاضها.
على الصعيد المحلّي، تبرز مُشكلة إستيراد لبنان من المُشتقات النفطية والتي ستزيد من الضغط على القدرة الشرائية للمواطن ولكن أيضًا على إحتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية وعلى خزينة الدولة.
في الواقع، إرتفاع أسعار النفط عالميًا سيرفع تلقائيًا من أسعار السلع والبضائع إن من ناحية كلفة التصنيع أو من ناحية كلفة النقل، وبالتالي ستقلّ القدرة الشرائية لهذا المواطن بشكل تلقائي. أيضًا وعلى صعيد مصرف لبنان، فقد أصدر تعميمًا تعهّد من خلاله بتأمين دولارات الإستيراد للمواد الأساسية ومن بينها المحروقات وهذا الأمر سيزيد الضغط على إحتياطه في ظل الصعوبات المالية التي تواجه الدوّلة اللبنانية.
أمّا على صعيد الخزينة العامّة، فإرتفاع أسعار النفط ينعكس في كلفة إستيراد الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان مما يعني أن هناك خيارين: زيادة الإعتمادات أو خفض ساعات التغذية. هذا الواقع يُعقدّ أكثر من مسار موازنة العام 2020 والتي من المفروض أنه سيتمّ بحثها في الأسابيع المُقبلة في المجلس النيابي حيث أنه من المنطق رفع توقّعات أسعار النفط في هذه الموازنة تفاديًا لحصول مفاجأة في أخر العام 2020!