Site icon IMLebanon

“عربة” موازنة 2020 تمشي… بلا “فرسان”!

 

المشروع يئنّ تحت وطأة الأوراق الإصلاحية والمحاسبة العمومية

 

في لبنان روحية سائدة هي روحية التعدي على التشريعات. اما الاكثر خطورة فمتمثّل بتأثير المصالح الخاصة في الشؤون العامة، واساءة استخدام القوانين من قبل الحكومة (ولو عن غير قصد). لكن في بلد تُبذل فيه الجهود لتغيير جوهر الدولة، يصبح هذا الامر عادياً ويكون بالتالي الاصلاح مستحيلاً…

 

وفق قانون المحاسبة العمومية، يُبنى إعداد موازنة الدولة على مشاريع نفقات الوزارات التي يضعها الوزراء، كل في ما خصّه، وتُراعى فيها تعليمات وزير المالية المفترض أن تأخذ بالاعتبار التوجهات والمبادئ التي تكون الحكومة قد قررت اعتمادها بهذا الشأن. تقدّر المالية ايرادات مشروع الموازنة، ولتأمين توازن هذا المشروع، فإن الوزير يقترح ما يراه ضرورياً من تدابير كتخفيض النفقات أو إيجاد موارد جديدة، تكون إما بتعديل القوانين الضريبية السارية أو باستحداث ضرائب جديدة لم تكن موجودة. وهذا لا يعني أن تقتصر زيادة الضرائب واستحداثها على قوانين الموازنة، وإنما يمكن أن تصدر بموجب قوانين خاصة، كما الحال بالنسبة للقانون 45 تاريخ 21/8/2017، الذي صدر لغايات تمويل رفع الحد الأدنى للرواتب والأجور وإعطاء زيادة غلاء معيشة للموظفين والمتعاقدين والأجراء في الإدارات العامة….، والذي تضمن 17 مادة تتعلق بتعديل أو استحداث ضرائب، كان في طليعتها زيادة نسبة الضريبة على القيمة المضافة، إضافة إلى رسم الطابع المالي والرسم على الاسمنت وعلى استهلاك المشروبات الروحية والتبغ والتنباك المستورد وعلى المسافرين…وقد تلاه القانون رقم 64 تاريخ 26/10/2017، الذي أدى أيضاً إلى تعديل واستحداث بعض الضرائب والرسوم، وكذلك جاءت قوانين موازنات الأعوام 2017 و 2018 و2019 فتضمنت بدورها تعديلات وإعفاءات ضريبية.

 

ينحصر النقاش الدائر اليوم ضمن إطار تحضير مشروع موازنة العام 2020 فيتمحور بشكل رئيسي حول إشكاليتين: الأولى، إمكانية اقرار اوراق إصلاحية ترد من مختلف التيارات والأحزاب السياسية بعد أن تكون وزارة المالية قد انتهت من إعداد مشروع الموازنة وإحالته إلى مجلس الوزراء لإقراره بصيغته النهائية، وذلك في ضوء أحكام المادة 17 من قانون المحاسبة العمومية التي تنص على أن تقدّم المالية إلى السلطة التشريعية، قبل أول تشرين الثاني، تقريراً مفصلاً عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة. والثانية، احتمالية الفصل بين مشروع الموازنة وما تستوجبه الإصلاحات البنيوية والهيكلية التي ينتظرها البنك الدولي والمجتمع الدولي والجهات المعنية بتمويل مشاريع “سيدر” والتي تنتظرها وكالات التصنيف العالمية.

 

“لا شك أن ما ينتظره الخارج من موازنة 2020 لا يقتصر على تقليص نسبة العجز إلى الناتج المحلي، وإنما ينتظر المجتمع الدولي موازنة رؤيوية تحاكي المدى المتوسط من الاعوام المقبلة وتنطوي على أبعاد تنموية وتصور يكون مقنعاً في إمكانية معالجة أزمة المالية العامة ومديونيتها التي لم تعد تحتمل التأجيل. إن المجتمع الدولي ينتظر خطة إصلاحية اقتصادية ومالية وإدارية شاملة، ولا بد لهكذا خطة من أن تستحضر الحاجة إلى ضبط الهدر ومكافحة الفساد ومراعاة قدرة الاقتصاد على تحمل مزيد من الضرائب التي اعتادت الحكومات على استسهال طرحها وهدر حصيلتها في مزاريب الفساد بعيداً عن أية رقابة جدية وفاعلة” يقول الخبير بشؤون المالية العامة والموازنة غسان بيضون.

 

ويضيف بيضون “المطلوب من لبنان إحداث إصلاحات جدية تمهد الطريق أمام تنفيذ وعود مؤتمر سيدر، لذا فان إقرار موازنة 2019 وسلسلة “الإجراءات الإصلاحية” التي شملتها وتلك التي أقرت في لقاء بعبدا الذي انعقد قبل يوم واحد من وصول المبعوث الفرنسي دوكان، لا تكفي لتوفير الثقة للمجتمع والمؤسسات الدولية بجدية الدولة اللبنانية في معالجة أوضاع ماليتها وعجز موازنتها العامة وتحقيق الحد المطلوب من النمو يساهم في السيطرة على المديونية ويؤمن الاستقرار المالي”.

 

عن “فرسان” الموازنة التي لم تغب يوماً عن الموازنات المتعاقبة منذ التسعينات، يوضح المرجع القانوني، رئيس منظمة جوستيسيا الحقوقية بول مرقص انه بحسب المادة 3 من قانون المحاسبة العمومية: ” الموازنة صك تشريعي تقدر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة وتجاز بموجبه الجباية والانفاق”. وبحسب المادة 5 من قانون المحاسبة العمومية: “ان قانون الموازنة هو النص المتضمن اقرار السلطة التشريعية لمشروع الموازنة. يحتوي هذا القانون على احكام اساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات، واجازة الجباية، وفتح الاعتمادات اللازمة للانفاق وعلى احكام خاصة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة”. من هذا المنطلق تعتبر تسمية فرسان الموازنة سلبية لأن هناك مواد أو نصوصاً تحشر في مشروع الموازنة بهدف تمريرها تحت ضغط هاجس اقرار الموازنة خلال المهلة القصيرة نسبياً المحددة لاقرارها. في القانون الفرنسي يتم استبعاد هذه المواد بهدف تفادي تضخيم الموازنة واطالة المناقشة في المجلس النيابي”.

 

ويلفت مرقص الى انه “رغم ان اصول التشريع المالي لا تقتصر على شكليات معينة الا ان هذه الشكليات مهمة وتؤخذ بالاعتبار كما تفرض المادة 83 من الدستور، حيث تنص المادة على التصويت على الموازنة بنداً بنداً وليس على القانون برمته..وتنص المادة 119 من النظام الداخلي للمجلس النيابي انه لا يجوز الغاء وظيفة او ادارة قائمة بموجب قانون الموازنة وانما بموجب قانون خاص تجنباً للخلط في التشريع. وقياساً على ذلك، فالاخلال بأصول التشريع المالي كادخال نص قانوني في متن نص آخر لا علاقة له به او بالمالية العامة أمر خطير في بلد تتحكم فيه الادارة بهامش واسع في تكييف وتطبيق القانون، لانه بنتيجة ذلك يقع المواطن الذي لا يفترض به الالمام بتقنيات القانون وتفاصيل الموازنة ضحية التضليل. لذا فان المطلوب في لبنان واكثر من اي وقت مضى سياسة مالية واجتماعية استراتيجية في السكن والادارة والضرائب ترافقها ورشة تشريعية لم تقم بعد رغم انتهاء الحرب، من شأنها ان تأخذ بالاعتبار المعايير الضرورية في التشريع وتقريب الحقوق من الناس”.

 

يخضع لبنان لرقابة مشددة من قبل المؤسسات الدولية. ذلك يستدعي من الدولة حكومة ومجلس نواب إثبات الجدية في التعاطي مع الأزمة ومخاطرها الراهنة وتدارك انعكاساتها على المستقبل، بحيث يقتضي ذلك إدراج الإصلاحات المطلوبة في صلب مشروع موازنة 2020 وليس خارجها أو بمعزل عنها، كي تعكس صورة واقعية شاملة ومقنعة حول مستوى عجزها الفعلي ومدى جدية الالتزام بالإصلاحات التي تنطوي عليها، فتبين التدابير التي اتخذتها الحكومة اللبنانية على الصعيد الاقتصادي وتوفر للمهتمين مستوى القناعة اللازم للاستمرار بتنفيذ برامج المساعدات والتعاون، التي باتت تشكل حاجة حيوية وملحة، لا بل المخرج الوحيد المتاح للبنان لمعالجة أوضاعه المالية على المديين القصير والمتوسط. تطالبنا سيدر بإصلاحات جدية، ووضع المزيد من الضرائب لا يعفي الحكومة اللبنانية من القيام بالإصلاحات البنيوية المطلوبة، التي تبقى معيار الحكم الأساسي على مدى”جدية” لبنان، لذا لم يعد من الجائز المغامرة بهذه الفرصة الاخيرة.

 

وبما أن الاتجاهات الحديثة للموازنة ترتقب من الدول التي تواجه صعوبات مالية اعتماد الموازنات المتوسطة الامد (بين 3 و 5 سنوات) لما توفره من مدىً زمني مناسب لتنفيذ المعالجات وتحقيق أهدافها،وتلافي الهزات الاقتصادية، من هنا من غير المنطقي الفصل بين مشروع الموازنة والإجراءات الإصلاحية البنيوية المطلوبة والمرتقبة، لتوفير الصورة الشاملة والأمينة المطلوبة واستمرار تجاوب سيدر وغيرها مع حاجة لبنان للمساعدة.