عندما ننظر الى مشروع موازنة 2021 بدقة، نفهم سريعاً انها موازنة ضريبية بامتياز، تتطرّق إلى شقين: الأول يتعلق بكبار المودعين، والثاني يتطرّق إلى موظفي القطاع العام. لكنّ الايجابية الوحيدة التي برزت في الموازنة المقترحة، أنها طُرِحت في الموعد المحدّد بعدما اعتَدنا من قبل المعنيين على تأخيرها وتأجيلها، وهَدر الوقت وعدم احترام المُهل.
في اقتصاد نامٍ واستثمارات متزايدة، وحلقة اقتصادية متكاملة، ونمو مُستدام، كان مُمكناً أن نتفهّم الاتجاه حيال كبار المودعين، وزيادة الضرائب على فوائدهم، لمساعدة الطبقات المنخفضة الدخل. لكن عندما نبحث عن قرشٍ واحد من الخارج لاستعادة بعض الحركة الاقتصادية، وجَذب بعض العملات الصعبة، كذلك من المستثمرين ومن المودعين، هل يُمكن طَعنُهم مرة أخرى في الظهر، ليدفعوا ثمن نجاحاتهم، وفشل حكامهم؟
إننا نُذكّر بفخر أنّ هؤلاء المودعين هم الرياديون الذين آمنوا ببلدهم، واستثمروا فيه، وخَلقوا الوظائف والنمو لسنوات عديدة. قسمٌ كبير منهم يُشكّل أيضاً الاغتراب اللبناني، والمهاجرين الذين رفعوا علم لبنان في كافة أنحاء العالم، وكسبوا أرباحاً من عرق جبينهم وتعبهم وتضحياتهم.
رسالة الموازنة حيالهم هي مسلسل خطايا اقتصادية متواصلة: الجزء الأول كان عندما جُذبَت أموالهم وطُلب منهم إعادة الاستثمار في بلدهم الأم. الجزء الثاني كان عندما صُرفت أموالهم وهُدرت وسُرقت مدّخراتهم. والجزء الثالث برز عندما مُنعوا من التحويلات إلى الخارج في ظل الـ Capital Control غير الشرعي وغير القانوني. الجزء الرابع عندما أُجبروا على خسارة نحو 70 % من قيمة ودائعهم، ويتم تقسيط ما تبقّى منها وتحويلها إلى العملة الوطنية بعد إجبارهم على التسوّل الشهري. والجزء الأخير هو الآن موازنة 2021 من أجل حَذف 1 % و1.5 % من جَنى عمرهم لتمويل عجز الدولة وفشل السياسيين.
هذه الرسالة ليست موجّهة فقط إلى المستثمرين وكبار المودعين فحسب، بل هي رسالة سيقرأها أيضاً أولادهم وأحفادهم، وكل الأجيال المقبلة، باعتبار أنّ الحقيقة المُرّة أننا نشهد أكبر عملية نَهب في التاريخ، وضرب كل أركان الثقة على المدى القريب والمتوسّط والبعيد.
الشق الثاني يتعلق بموظفي القطاع العام: نُدرك تماماً أنّ حجم الدولة هو في أساس المشكلات. والعجز المالي، وميزان المدفوعات وعجز مالية الدولة كلها مشاكل تسبّب بها التوظيف السياسي، والمذهبي، والطائفي والخدماتي والحزبي.
إنه من المستحيلات أنّ بلداً صغيراً مثل لبنان يُكرّس ثلث موازنته لدفع معاشات موظفين، قسم كبير منهم غير مُنتج. ليس سراً أنّ ثمة موظفين في القطاع العام يتقاضون رواتبهم مرة واثنين وثلاث مرات، وفي الحقيقة لا يعلمون أين يعملون وأين هم مسجلون؟ لكن نُدرك أيضاً أنّ هناك قسماً ضئيلاً منهم يعملون ليلاً ونهاراً بشفافية واحتراف، وهم الذين نتّكل عليهم من أجل إعادة بناء اقتصاد حقيقي. لكن بعد بضعة أيام من اقتراح مشروع الموازنة، واقتراح بعض الاصلاحات الخجولة، ثمّة ضغط سياسي أدّى الى سحب سريع لهذه الإقتراحات، وبقي التصويب على الناجحين والرياديين والمستثمرين.
أخيراً، فوجئنا بعدم تضمين هذا المشروع المقترح أي نقطة في موضوع الإلتزام في خدمة الدين، أو الدين العام وغيره من الإلتزامات المالية، وكأنّ الصفحة طُويت، وأُزيلَت من طاولة الحوار لدى البلدان المانحة، أي التفاوض مع الدائنين وحاملي سندات الخزينة، بُغية تكريس عجز الدولة وإفلاسها.
كلّنا يعلم أنّ هذا المشروع لن يرى النور من قبل حكومة تصريف الأعمال، ومن جهة أخرى فإنّ الحكومة العتيدة المقبلة ستقترح مشروع موازنة جديداً ومُتوقعاً، فلماذا اقتراح مشروع واهِم كي يضرب ما تبقّى من الثقة والأمل؟
في المحصّلة، كلّنا يعلم أنّ العجز لا يُضبط بالضرائب العشوائية، لكن من خلال الثقة والنمو والاستثمار. بدلاً من استنباط مشاريع واهمة ومُدمّرة، وكُرات نار سياسية ومُخرّبة، ألم يَحِن الوقت بعد من أجل بناء خطة جماعية، إنقاذية، إقتصادية، إجتماعية، إنمائية، ورؤية واضحة وشفّافة على المدى القصير والمتوسط والبعيد في بلادنا؟