لا داعيَ للتذكير بأنّه كيفما خرج مشروع قانون الموازنة العامة من رحم الحكومة، فإنّ مجلس النواب سيكون لها بالمرصاد، لإعادة دراستها من جديد، و»نتفها ريشة ريشة»، قبل أن يعيث في أرقامها الفوضى خصوصاً أنّها ستناقش وتقرّ على مسافة أسابيع من فتح صناديق الاقتراع ما يعني أنّ النواب سيجدون صعوبة لا بل استحالة، في تبنّي موازنة لا يمكن وصفها إلّا بالضرائبية التي تحتاجها الخزينة العامة لتسديد النفقات!
وعليه، بمعزل عن طبيعة الإشكال الذي شهدته جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، والأسباب التي دفعت الوزراء الشيعة إلى نفض أيديهم من الموازنة العامة التي أبلغوا بإقرارها، فالمشروع الذي سيحال إلى مجلس النواب لبدء مناقشته في لجنة المال والموازنة، سيخضع للتنقيح مرّة واثنتين وثلاثاً وأكثر، قبل أن يصار إلى استبداله بصيغة جديدة حيث لن توفّر أي كتلة نيابية سكاكينها لضرب الموازنة، وكأنّ هذه الأطراف كلّها هبطت فجأة من على سطح القمر وقررت محاسبة الحكومة الجديدة على الخطايا التي تنوي ارتكابها تحت عنوان تأمين الواردات.
في الواقع، بدت شكوى الوزراء الشيعة من سلق إقرار الموازنة في مجلس النواب، أشبه بالشمّاعة التي علّقت عليها الأسباب الحقيقية لاعتراض الثنائي الشيعي: التعيينات… خصوصاً أنّ هناك وجهتي نظر متداولتان بخصوص إقرار الموازنة.
تقول وجهة النظر الأولى إنّ الوزراء الشيعة كانوا ينتظرون النسخة الأخيرة من التعديلات التي طرحت خلال المناقشات التفصيلية للموازنة، قبل أن يصوّتوا على المشروع، الأمر الذي لم يحصل، بدليل أنّهم لم يطّلعوا على المحاكاة التي كان يفترض أن يعدّها وزير المال حول الدولار الجمركي كما لم يطّلعوا على لائحة الاستثناءات التي أعدّها ولا على الأرقام الأخيرة. ولهذا اعتبر الثنائي الشيعي، وتحديداً «حزب الله» أنّه يتعاطى مع هذا المشروع وكأنّه لم يقرّ في مجلس الوزراء.
في المقابل، ثمة وجهة نظر ثانية تفيد بأنّ إقرار الموازنة لم تَشُبه أي شائبة وقد تمّ وفق الأطر القانونية، إلّا أنّ الثنائي الشيعي يفضّل غسل يديه من مشروعها لاعتبارات شعبوية لا أكثر، بدليل أنّ وزراءه ناقشوا بنود الموازنة كلّها وسجّلوا ملاحظاتهم وهم يدرون جيداً أنّ هذه الملاحظات سيُعاد تدويرها من جديد في اللجان النيابية وفي الهيئة العامة. وبالتالي، إنّ اعتراضهم مرتبط بالتعيينات لا أكثر.
الإشكالية انطلقت مع شغور منصب مفوّض الحكومة لدى مجلس الإنماء والإعمار مع إحالة وليد صافي إلى التقاعد، فتمّ تفويض الموظّف الذي يليه رتبة بالإنابة حيث كان يحاذر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي طرح أي تعيين لكونه لا يريد الاصطدام بالثنائي الشيعي الذي عاد عن مقاطعته جلسات مجلس الوزراء بشرط وحيد هو عدم مقاربة التعيينات أبداً. وقد صودف أنّ الموظف الذي حلّ محلّ وليد صافي ينتمي إلى الطائفة الأرمنية، ما دفع بالحزب التقدمي الاشتراكي إلى الاعتراض عند رئيس الحكومة ومطالبته بتعيين شخص من الطائفة الدرزية، بالوكالة إذا كان من الصعب حصول التعيين بالأصالة. وقد عرض اسمين: يحيي خميس وزياد نصر.
وبالفعل، قبيل التئام جلسة مجلس الوزراء، طرح ميقاتي المسألة على رئيس الجمهورية ليسأله عن إمكانية تعيين مفوض للحكومة، ولو بالوكالة، خصوصاً أنّ رئيس مجلس الإنماء والإعمار يشكو من تعطّل عمل المجلس. كما أنّ ميقاتي كان على دراية بأنّ الجلسة قد تشهد تعيينات عسكرية من خارج جدول الأعمال. إلّا أنّ رئيس الجمهورية اعترض على المبدأ بحجة أنّ هناك عشرات المراكز الشاغرة ولا يمكن بالتالي القيام بأيّ استثناء.
وحين طرح رئيس الجمهورية تعيين العميد محمد المصطفى في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع (من حصة السنّة) والعميد بيار صعب لملء شغور مقعد العضو الكاثوليكي في المجلس، بادر ميقاتي إلى طرح تعيين مفوّض للحكومة في مجلس الإنماء، فوقعت البلبلة بعدما طلب الوزراء الشيعة استمهالهم حتى جلسة يوم الثلاثاء لإبداء الرأي، ما أدّى إلى رفع الجلسة فيما بعض الوزراء لم يكن على دراية بما حصل: كيف أُقرّت الموازنة والتعيينان؟
العودة يوم الثلاثاء
يقول أحد الوزراء الشيعة إنّ العودة إلى جلسة مجلس الوزراء تمّت تحت عنوان إقرار الموازنة وخطّة التعافي وتحسين الوضع المعيشي. ولم يدع رئيس الحكومة إلى جلسة لمجلس الوزراء إلّا بعدما حدّد الثنائي الشيعي إطار عودته، ما يعني موافقته على الشروط التي وضعها الثنائي. وبالتالي إنّ قول ميقاتي إنّ «وضع جدول أعمال مجلس الوزراء هو حصراً من صلاحيته ويطلع فخامة رئيس الجمهورية عليه، على أن يكون لفخامته حقّ طرح أي بند من خارج جدول الأعمال»، ونفيه «عقد أي اتفاق جانبي لقاء عودة الوزراء المعتكفين في حينه إلى المشاركة في جلسات مجلس الوزراء»، لا يمتّان إلى الواقع بصلة كما يؤكد الوزير.
ويشير إلى أنّه لو كان اعتراض الشيعة مرتبطاً بمركز نائب مدير عام أمن الدولة، لما كان خرج الوزراء الشيعة من الجلسة إلا بعد حصول هذا التعيين، وما كان هناك من داع لتأجيل الأمر إلى الجلسة المقبلة، كما يتمّ الترويج له. ويؤكد أنّ لبّ الإشكالية التي وقعت يتّصل بمبدأ إجراء التعيينات، وهو مبدأ يرفض الثنائي تجاوزه، ما يعني أنّ «إغراءهم» بتعيين ضابط شيعي في أمن الدولة، ما كان ليبدّل موقفهم.
ولكن بالنتيجة، سيعود الوزراء الشيعة يوم الثلاثاء إلى جلسة مجلس الوزراء. وقد لا تُعاد مناقشة الموازنة من جديد، ولو أنّ هناك من يتحدّث عن أنّ ميقاتي قد يفعلها فقط من باب التأكيد أنّ اعتراض الثنائي لا علاقة له بالموازنة.
ويؤكد أحد وزراء الثنائي أنّ اعتراضهم على التعيينات لا يزال على حاله، لأنّهم لن يسمحوا بأن تكرّ السبحة، مشيراً إلى أنّ هذا «التذاكي قد يؤدي إلى تفجير مجلس الوزراء». والأرجح أنّ رحلة الحكومة ستكون خلال المرحلة المقبلة حافلة بالألغام والمطبّات. فيما تقول مصادر سياسية من الثنائي إنّ التعيينات الأمنية تشكل استثناء للحظر المضروب، لاعتبارات تتّصل بوضع الأجهزة والمؤسسة العسكرية، والأرجح أن تشهد جلسة الثلاثاء تعيين نائب لمدير عام أمن الدولة.