سال الكثير من الحبر وبُحّت حناجر كثيرة في هجاء مشروع الموازنة العامة، وتسابق البعض من النواب، كتلاً وفرادى، على توسل مختلف الأساليب، مقاطعة أو تهريباً للنص أو اعتماداً لأساليب أخرى مشكوك في ديمقراطيتها وأحقيتها لا سيّما في لحظات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي «الأسوأ في العالم».
الموازنة التي أقرّت، رغم افتقارها للرؤية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والاصلاحيّة المطلوبة، إلا أنها تحد من الإنفاق غير المنتظم على القاعدة الاثنتي عشريّة، وتلبي في مكانٍ ما من هذه الزاوية، أحد مطالب هيئات التمويل الدوليّة (وأبسطها)، وتوفر بعض المداخيل الماليّة الضروريّة للقيام بخطوات تحسين جزئي لرواتب موظفي القطاع العام والعاملين في الأسلاك العسكريّة والأمنيّة الذين تآكلت مداخيلهم بالعملة الوطنيّة عشرات المرات منذ انفجار الأزمة الإجتماعيّة في أواخر العام 2019.
لذلك، من الضروري جداً عدم تأخير الانطلاق في مناقشة مشروع موازنة العام المقبل في المواعيد الدستوريّة المحددة على أن تتضمن رؤية إصلاحيّة شاملة ومتكاملة تعالج قضايا تاريخيّة مزمنة غالباً ما لم تتم مقاربتها بفعل غياب الإرادة الإصلاحيّة الجديّة، من جهة؛ وتضارب المصالح السياسيّة والفئويّة، من جهة أخرى.
القضايا المزمنة تتعلق، على سبيل المثال، بالمقاربة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الشاملة، ووظيفة الدولة ومسؤولياتها المتنوعة تجاه مواطنيها. إذا كان الحفاظ على الحريّات الاقتصاديّة مطلوباً؛ إلا أن تخلي الدولة عن دورها وإتاحة المجال أمام البعض من مافيات التجار وكبار الرأسماليين للانقضاض على المجتمع من دون حسيب أو رقيب (كما هو حاصل حاليّاً من «العصابات» التي تستفيد بصورة يوميّة من تلاعب سعر صرف الدولار الأميركي) هو بمثابة حالة شاذة لا يمكنها أن تستمر.
لقد آن الأوان للإقلاع عن تلك النظريّات البائدة التي تكاد تحصر أنشطة الإقتصاد اللبناني بقطاعي الخدمات والسياحة. حتى القطاع المصرفي الذي كان يتغنّى أربابه بنجاحاته غير المسبوقة، تبيّن مدى هشاشته عند إهتزاز الدولة والماليّة العامة. طبعاً، ليس المطلوب إسقاط هذا القطاع لأنه يبقى حاجة لا غنى عنها عند انطلاق أية خطة نهوض مرتجاة في القريب العاجل.
المطلوب تنويع قدرات الإقتصاد اللبناني وبناء المناخات الملائمة مجدداً التي تتيح ذلك من خلال إصلاحات هيكليّة لم يعد ممكناً تأجيلها أو تطبيق الأساليب اللبنانيّة في التذاكي أو الالتفاف حولها. إعادة هيكلة القطاع المصرفي في طليعتها، وكذلك قانون «الكابيتال كونترول» العالق في المجلس النيابي منذ الولاية السابقة، بالاضافة حتماً إلى الطامة الكبرى المتمثلة بقطاع الكهرباء الذي أهدر في سبيله ما يزيد عن الأربعين مليار دولار وانتقلت البلاد من تغذية لعددٍ من الساعات مع برنامج تقنين إلى «صفر تغذية»! أيعقل ذلك حقاً؟
لقد حفظ اللبنانيون عن ظهر قلب المطالب الإصلاحيّة الأساسيّة لا سيّما تلك التي لا تتوانى عن تردادها هيئات التمويل الدوليّة وفي مقدمها صندوق النقد الدولي الذي أصبح في غضون أشهر قليلة ممر لبنان الإلزامي إلى المجتمع الدولي الذي سئم من الألاعيب اللبنانيّة في التشاطر والتذاكي والمراوحة وهدر الوقت والفرص.
رئيس الحكومة تحدث عن قدرة لبنان في الحصول على 12 مليار دولار من الصندوق، ولكن تذكيراً، لم يحصل لبنان على المليارات الثلاثة الأولى نتيجة التقاعس والتجاذبات وانعدام المسؤوليّة في إدارة الشؤون الوطنيّة في أكثر المراحل حراجة في تاريخ لبنان المعاصر. حتى الاتفاق الأولي الذي وقعه لبنان مع الصندوق على مستوى الموظفين غير ذي جدوى ما لم يُستتبع بخطواتٍ إصلاحيّة جديّة وجذريّة وشاملة.
المهم الآن أن يتنفس اللبنانيون الصعداء مع انتهاء العهد الرئاسي الأسوأ بتاريخ لبنان الذي أهدر ست سنوات في النكايات السياسيّة. يا للنكد!