من أهم الوثائق التي تصف وضع أي دولة هي الموازنة. تحصل صراعات حولها في أعرق دول العالم، وشاهدنا اقفال الادارت العامة في العديد من الدول بينها الولايات المتحدة بسبب الخلاف على الأرقام. احصائياتها السنوية أي توقعات الانفاق العام والايرادات توجه اقتصاد الدولة خلال سنة كاملة. كل سياسات الدولة تصب في الموازنة عبر فصولها المرتبطة بالمؤسسات والوزارات لتلبي حاجات المواطنين، وبنفس الوقت تضع خطوط تحصيل الايرادات عبر الضرائب والرسوم وغيرها والتي تمول الانفاق.
الفارق بين الانفاق والايرادات يشكل العجز المالي الذي يتراكم في حساب الدين العام. هنالك دول قليلة تحقق فائضا في حساباتها أي ان انفاقها يكون اقل من الايرادات وهذه نعمة، لكنها يمكن أن تشير أيضا الى ايرادات لا تستثمر في الاقتصاد للصالح العام. في لبنان، الحاجات كبيرة والتمويل لا يكفي، لذا نتكلم دون تردد عن عجز الموازنة الذي يتقلب بين سنة وأخرى. لا بد من معالجة تراكم العجز أي وضع الدين العام عندما تسمح الظروف. الأوضاع المالية والاقتصادية الحالية المتعثرة تنعكس سلبا على سعر صرف الليرة دون أن نهمل الرؤية السياسية التشاؤمية.
لا أحد راضٍ عن موازنة 2022 والأسباب مختلفة. في ظل ظروف خانقة كالتي نعيش فيها لا ينفع الا الانفاق السخي لإحداث نمو قوي يخفف البطالة ويرفع مستوى المعيشة، لكن الامكانات المالية غير موجودة والديون الحالية خانقة في الحجم والخدمة. رفع نسب الضرائب في ظروف انكماش مضر لأن اللبنانيين غير قادرين على تسديد المتوجبات الحالية، فكيف بزيادتها؟. نعاني أيضا من نوعية الخدمات التي تزداد سؤا أهمها الكهرباء والاتصالات والنقل. عمليا نتنازع على القليل الموجود في ظل غياب تام للرؤية المستقبلية التي كان من المفروض أن تكون فاعلة قبل اصدار الموازنة. الرؤية الخمسية مهمة كي نستطيع اتخاذ القرارات الصائبة للسنوات المقبلة. في غياب الانفاق الكافي ومع رفع النسب الضرائبية وتردي الخدمات المختلفة، لا نجد من يحسدنا على وضعنا المتميز سؤا. لكن لا يمكننا كمجتمع أن نقف ونتفرج ولا بد من عمل الممكن بل أكثر للانقاذ.
من أصعب السياسات العامة وضع موازنة في وضعنا الحالي. الاقتصاد ينهار أكثر فأكثر والامكانات متواضعة وبالتالي الانقاذ صعب جدا. في وضعنا الحالي أي عندما تعاني أي دولة من ركود وبطالة مرتفعة واقتصاد جامد وتضخم وادارة غير فاعلة يعشعش فيها الفساد، لا بد من تفعيل الانفاق لتحريك الاقتصاد بانتظار تنفيذ الاصلاحات. كتب الاقتصادي «جون ماينارد كينز» في 1936 ان زيادة الانفاق ينشط الاقتصاد مما يسمح بتحصيل الضرائب لاحقا والقضاء على الديون. في لبنان اليوم نحتاج عمليا الى زيادات كبيرة في الانفاق على كل الأمور الاجتماعية والاستثمارية في وقت يعجز المواطن عن تسديد أبسط الضرائب بل لا يستطيع حتى القيام بواجباته العادية تجاه نفسه وعائلته. نعاني في لبنان من مستويات نمو وتنمية متدنية واقتصاد مريض في وقت لا يمكن خلاله زيادة الانفاق كثيرا بسبب ضعف الموارد. الحاجات كبيرة والامكانات متواضعة مما يسبب الكثير من القلق تجاه الحاضر والمستقبل.
كي يبقى العجز المالي ضمن حدود مقبولة وطنيا وخارجيا، ألغت الحكومة الانفاق الاستثماري بالرغم من حاجتنا الماسة اليه في البنية التحتية وغيرها. أجل هذا الانفاق المهم الى السنوات اللاحقة لعل الظروف الداخلية والاقليمية تسمح عندها بذلك. أجازت تقسيط الضرائب والرسوم لمدة 3 سنوات وهذا يسمح للمواطن وللشركات بالتنفس قليلا بانتظار أيام أفضل. كان من المتوقع أن يتعزز الانفاق الصحي والاجتماعي والتربوي الى حدود مرتفعة لكن الامكانات قليلة بالرغم من الوعي الكبير للتحديات الخطرة التي تنتظرنا. هنالك تعديلات في شطور الضرائب لأن تحصيلها ضروري لتمويل بعض الانفاق العام المقرر. الزيادات على الرسوم والضرائب كبيرة ومن الضروري تعديلها لأنها تقضي على فرص النمو وبالتالي لن تحصل الكثير.
في كل حال، المعروض هو مشروع موازنة ومن المنتظر أن يتعدل العديد من الأرقام خاصة الانفاق الاجتماعي وبعض النسب الضرائبية شرط مجددا أن لا نقع في فخ العجز الكبير. يجب أن نكون خلاقين في ايجاد ايرادات غير كلاسيكية وممكنة. يمكن تلخيص وضع مشروع الموازنة كالتالي:
أولا: الانفاق أي 49.42 ألف مليار ليرة. بالرغم من حجمه الكبير لا يكفي حتما لتحسين أوضاع الموظفين الذين يعانون معيشيا. تحسن سعر صرف الدولار، شرط استمراره، ربما يبقي معاناة العيش في حدود أكثر تحملا. أما تحديد سعر الدولار فيجب توضيحه، اذ أن الضبابية في هذا الايطار تضعف الثقة بالحكومة وبقرارات وزير المال. من غير المقبول تأسيس هيئات أو مجالس جديدة في ظروف الشح المالي، علما أننا نعلم جميعا أنها لن تفي بالحاجات الكبيرة الملقاة على عاتقها. هيئة مكافحة الفساد لن تنجح اليوم وكان من الأفضل تأجيلها الى ظروف استقرار مستقبلية. حجم الانفاق نسبة للناتج المحلي الاجمالي أصبح كبيرا جدا نتيجة تدني حجم الاقتصاد وبالتالي تقليص حجم القطاع العام واجب ومطلوب.
ثانيا: الايرادات المقدرة ب 39.15 ألف مليار ليرة تبقى غير كافية لتمويل الانفاق. زيادة الضرائب والرسوم كيفما كانت التشكيلة المقترحة لن تكفي وكلما رفعنا النسب كلما تدنى التحصيل. التركيز على الضرائب غير المباشرة واضح لصعوبة تحصيل أي أرقام كافية من الضرائب المباشرة. هذا غير عادل ويوسع الفجوات المالية الداخلية. الحل هو في عودة الحياة الى الاقتصاد اللبناني أي يعود الى نمو ايجابي طبيعي مما يسمح بزيادة التحصيل الضرائبي لاحقا. أما اعطاء وزير المال صلاحيات تشريعية، فمن المرجح أن لا يقبل بها المجلس النيابي المتعلق جدا بصلاحياته التشريعية الكاملة. في كل حال، من الأفضل أن لا نعطي اليوم أفضليات تشريعية لا يمكن الغاءها مستقبلا وقد تعلمنا في لبنان أن السوابق تدوم بسبب المصالح السياسية والطائفية.
ثالثا: العجز المالي يبلغ حوالي 10 ألاف مليار ليرة أي 20,8% من الانفاق، واذا أضفنا اليه سلفة الكهرباء المقدرة ب 5250 مليار ليرة، يصبح العجز 30% وهذا كبير بكل المعايير ومن الممكن أن يعقد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
بسبب ضرورة وجود موازنة، لا بد من تعديل بعض أرقام المشروع بعد اقرار رؤية عامة واقعية تبث الأمل في العقول والقلوب. في هذا الوقت الضائع والثمين، لا بد من العمل لرفع انتاجية الادارة العامة وضبط الهدر ولو بنسب متواضعة وهذا ممكن بانتظار التغيير مع الانتخابات النيابية والرئاسية.