Site icon IMLebanon

جمهورية من إسمنت

 

من خلف الأسوار ناقش المجلس النيابي مشروع الموازنة وأقرّه بجلسة خاطفة تميّزت بكل صنوف الخروج عن القواعد الدستورية. مثول حكومة لم تنل الثقة أمام المجلس النيابي وتبني رئيسها، بعد جدل دستوري، مشروع الموازنة للحكومة المستقيلة شكّل بحدّ ذاته خرقاً للدستور.

 

مناقشة النواب لموازنةٍ، بغياب من أعدّها عن موقع المساءلة، بالرغم من اعتراف العديد منهم أنّ الظروف التي أُعدّت الموازنة خلالها قد تغيّرت، وبالتالي فإنّ الأرقام التي بُنيت عليها لا سيما تلك المتعلّقة بالواردات وقدرة مصرف لبنان وجمعية المصارف على المساهمة في خدمة الدين العام لم تعدّ محققة، وأخيراً إقدام رئيس لجنة المال والموازنة، فور خروجه من الجلسة، على الطلب الى رئيس الحكومة التقدّم بمشاريع قوانين لإحداث نفقات جديدة شكّلت بمجملها منظومة إعتداءات على الدستور.

 

إختلط التشريعي بالتنفيذي وتداخلت إستقلالية السلطات وتعاونها فتلاشت الحكومة حتى العدم، لتقدّم نوعاً من التماهي غير الدستوري بين السلطات وليتحوّل النظام البرلماني الديمقراطي الذي نصّت عليه مقدّمة الدستور الى نظام مجلسي تنتج فيه السلطات وتحدّد صلاحياتها في المجلس النيابي. هذا المجلس الذي يبدو أنّه ينتظر بفارغ الصبر جلسة منح الثقة للحكومة، التي من المرجّح أن تكون خاطفة، ليستكين بعدها حتى بداية العقد العادي ما بعد الخامس عشر من آذار، واضعاً الحكومة في مواجهة الشارع.

 

الحكومة الجاثمة بدورها خلف الأسوار المرتفعة في مواجهة الشارع، والتي وضعها عرّابوها في موقع لا تحسد عليه وتلعثم رئيسها وتردّد في تبنّي مشروع الموازنة ، لم تنجح حتى الآن في التموضع كسلطة مستقلة ولا يبدو أنّها قادرة على ذلك. هي مشتتة بين عدم القدرة على التحرّر من عباءة رئيس الجمهورية، نظراً لظروف تشكيلها ولعدم انبثاقها عن رؤية سياسية واضحة، وبين تحالف نيابي أنتجها يعاني كلٌّ من مكوناته ما يكفيه  من تبعات إنتماءاته ومواقفه الإقليمية في ظلّ الهجمة الأميركية والأوروبية على إيران ومشروعها التوسّعي، ومن اهتزاز ساحته الداخلية نتيجة الإخفاق والفساد الذي لم يعد بالإمكان فذلكته وإلقاء مسؤوليتة على خصومه السياسيين، وقد أضحى المادة الرئيسية التي تُبني عليه مجموعات الحراك منطقها. الحكومة اليوم تتحمل تبعات مدّعي الشفافية والحوكمة الرشيدة الذين صنعوها وهم يستحوذون على كل الأكثريات وبإمكانهم منازلة من يشاؤون في الداخل والخارج.

 

لقد أولت الحكومة حتى الآن الإهتمام للوجه الأمني للحراك، فأقامت الجدران الإسمنتية في محيط السراي الحكومي ومجلس النواب. ولكنّ الإنفلات الأمني جاء بعد تسعين يوماً من التظاهر السلمي الذي لم تُعِرْه السلطة أو أيٌّ من مكوناتها الإهتمام، بل تخاذلت أمام من اعتدى عليه، فالقبض على المندسّين ومفتعلي الشغب هو واجب السلطة وليس المتظاهرين. وهنا ربما يجب التحذير الى عدم الذهاب بعيداً في تقديم الأمني على السياسي، ومحاولة الإيحاء بإمكانية استعادة صورة نمطيّة للدولة الأمنية التي سادت في عهد الوصاية السورية، فما كان سائداً حينها ليس أمناً بل قهراً فرضه ميزان قوى دولي عطّل الدستور وأنتج طبقة سياسية هي المسؤولة عن الفساد وإفشال مشروع الدولة.

 

كيف ستنجح الحكومة في الإستمرار برفع عنوان تمثيل الحراك الذي يردّده بعض وزرائها، فيما بشائر تجاوز المحنة الإقتصادية والإجتماعية تبدو بعيدة المنال في حين لم يصدر عن رئيس الحكومة حتى الآن ما يُنذر بأنه سيطرق أبواب الفساد الحقيقية لا سيما في مجالات الكهرباء والإتصالات والتهرب الضريبي التي تهزّ مجتمعة أو كلّ منها على حدة المكونات السياسية التي تقف وراء تشكيل الحكومة؟ وهل ستواجه الحكومة بعد اتضاح إخفاقها الحراك الذي تدّعي تمثيله بتشييد جدران إسمنتية أمام كل إدارة أو وزارة حيث يتظاهر اللبنانيون، أم إنها سترضخ لمنطق القوة التي أنتجتها بحيث لن يكون أمامها في ظلّ استمرار إنسداد الأفق الإقليمي والدولي سوى الإرتداد نحو الداخل للإقتصاص من الخصوم وفتح الملفات إنتقائياً وتسخير القضاء في ظلّ حملة شعبويّة وأجواء أمنية؟

 

الحكومة التي تقهقرت اليوم في المجلس النيابي مدعوة للتخلي عن المقاربة الأمنية التي تبدو حتى الآن المظهر الوحيد المتوفر لتثبيت سلطتها كي لا يتحوّل لبنان إلى جمهورية من إسمنت!!!

 

مدير المنتدى الاقليمي للإستشارات والدراسات