تسير الدولة اللبنانية، منذ 12 سنة، بلا موازنة. كسر هذه الحالة الشاذة يتطلّب الرهان على إقرار مشروع موازنة 2017 المتأخّر عن المهل الدستورية والمنطقية التي تفرض إقرار موازنة في مطلع السنة وليس بعد انقضاء سبعة أشهر منها. ولا يقتصر الرهان على انتهاء لجنة المال والموازنة من درس مشروع الموازنة «خلال عشرة أيام» كما يقول رئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب إبراهيم كنعان، بل يشمل أيضاً الحدّ من الإسراف في الإنفاق بعدما تبيّن للجنة أن العمل جدياً «يمكن أن يخفض قيمة الاعتمادات الإجمالية بما لا يقل عن ألف مليار ليرة»
كان يفترض أن يحال مشروع قانون موازنة 2017 من الحكومة إلى مجلس النواب مطلع تشرين الأول 2017، كما تنص المادة 83 من الدستور، وهذا يعني أن درس الموازنة في مجلس الوزراء يجب أن يكون في الأشهر السابقة، أي في آب وأيلول.
لكن ما حصل أنّ مجلس الوزراء أحال المشروع في نهاية آذار 2017 إلى المجلس النيابي حيث لا تزال لجنة المال والموازنة تدرسه منذ ذلك الوقت إلى اليوم. وبحسب رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان، فإن درس بنود الموازنة في اللجنة لمدّة ثلاثة أشهر ليس خارجاً عن المألوف، بل «يقع ضمن المهلة الطبيعية المتعارف عليها عالمياً في إقرار الموازنات»، مشيراً إلى أن اللجنة «ستنتهي خلال عشرة أيام كحدّ أقصى من درس المشروع وإحالته إلى الهيئة العامة في انتظار تحديد جلسة لمناقشة الموازنة وإقرارها».
تطلّب إقرار الموازنة في مجلس الوزراء 15 جلسة بدأت بنقاش وتجاذبات بين من يريد إبقاء سلسلة الرتب والرواتب والمشاريع الضريبية المستحدثة لتمويلها ضمن مشروع موازنة 2017 ومن يريد فصلها عنه. واتفق على فصل السلسلة والشق الضريبي المتصل بها عن مشروع الموازنة، وأن تعقد لقاءات بين كنعان ووزير المال علي حسن خليل للاتفاق على تعديلات في البنود الأساسية. اتفق الرجلان على تعديلات تطاول «ركائز الموازنة» على حدّ تعبير كنعان؛ فالمادة 5 عدّلت لتقتصر إجازة المجلس النيابي للحكومة على السماح لها بالاستدانة لتغطية العجز المقدر في الموازنة فقط، وليس الفعلي والمحقق كما كانت عليه الحال خلال العقدين الماضيين. كذلك عدّلت المادة 8 التي كانت تأتي بصيغة تتيح للحكومة ووزارة المال إخضاع القروض والهبات لرغبة المقرض، ما يخرجها من دائرة الرقابة، فتمّ تعديلها للتقيد بالقوانين اللبنانية، بما في ذلك إخضاعها للرقابة وإيداعها في حساب الخزينة. أما القروض الاستثمارية التي كانت خاضعة لقرارات مصرف لبنان الإفرادية، فقد باتت تخضع لآلية تضعها الحكومة باقتراح وزارة المال بعد التشاور مع مصرف لبنان.
هذه التعديلات جاءت قبل إحالة المشروع إلى المجلس النيابي اعتباراً من أول أيار. «رغم أن هذه الفترة كانت صاخبة سياسياً بإعداد مشروع قانون للانتخابات النيابية، ما أدّى إلى فرط نصاب عدد من جلسات لجنة المال المخصصة للموازنة، تمكنّا من ممارسة الرقابة على كل بند واستدعينا كل الإدارات والهيئات المستفيدة من المال العام لنسألها عن الإنفاق وحاجاتها… وتبيّن لنا أن هناك أكثر من 1000 مليار ليرة يمكن خفض قيمة اعتماداتها، علماً بأن اللجنة قرّرت تعليق العمل بمواد تصل قيمتها إلى 1000 مليار ليرة».
قرار اللجنة لا يعني أن هذه المواد لن يعاد العمل فيها في الهيئة العامة لمجلس النواب، وأنه لا يمكن خفض المبلغ من مواد أخرى، ولا سيما أن للكتل النيابية مصالح وحسابات انتخابية ستكون العنصر الأبرز في اتخاذ قرارات الإنفاق من المال العام. الحصّة الأكبر من المبالغ المعلّقة هي قوانين البرامج، إذ تبيّن أن «قوانين البرامج بالصيغة التي وردت من الحكومة مخالفة للقانون، وهي تحدّد الإنفاق عبر جدول تسديد على فترات زمنية… في المقابل، طلبت اللجنة إحالة قوانين البرامج المذكورة إلى مجلس النواب بقوانين خاصة فتناقش كل قانون برنامج على حدة وعند إقراره يدخل الاعتماد المالي السنوي ضمن الموازنة». ومن أبرز قوانين البرامج المستغرب وجودها ضمن الموازنة تلك المتعلقة بإنفاق وزارة الاتصالات 450 مليار ليرة لتطوير وتوسيع الشبكة الثابتة وملحقاتها والخدمات المرافقة «وقد اتفق الجميع على التدقيق بهذا المبلغ وأولوياته، علماً بأنه جرى تلزيم شبكة الألياف الضوئية التي تعدّ تطويراً لهذه الشبكة، فأين تكمن الأولوية في قطاع الاتصالات؟».
ومن أبرز المواضيع المعلّقة تلك المتصلة بالمبالغ المدفوعة للجمعيات التي لا تتوخى الربح «وسط حديث عن جمعيات وهمية تحصل على مبالغ من المال العام، وجمعيات لا نعرف لماذا ندفع لها… طلبنا تقارير مفصّلة من الإدارات المعنية في وزارات الصحة والداخلية والدفاع والشؤون الاجتماعية وسواها لنعرف الهدف والجدوى من هذه المساهمات المدفوعة لجهات خاصة، ولا سيما أنها تبلغ 382 مليار ليرة» يقول كنعان.
ومن البنود المعلّقة أيضاً، بند المستشارين والتعويضات الإضافية والمكافآت وسواها ويصل إلى 168 مليار ليرة، علماً بأن كتلة رواتب المتعاقدين (ليست معلّقة) بلغت 321 مليار ليرة، بالإضافة إلى 40 ملياراً رواتب مؤقتين و1.2 مليار رواتب متعاملين.
كنعان: المهم أن تقرّ الموازنة بالإصلاحات الواردة فيها من الدين العام إلى الخفض على البنود وضبط القروض والهبات
وبحسب كنعان، تبيّن أن هناك 445 مليار ليرة تُدفع سنوياً على بنود الأثاث والمفروشات والتجهيزات والمعلوماتية «اتفقنا على تعليق هذا المبلغ، ولا سيما أنه يتكرّر كل سنة، ما يثير الكثير من التساؤلات عن الحاجة سنوياً إلى تجهيزات بقيم مماثلة. وقد تبيّن أن 46% من اعتمادات أجهزة المعلوماتية مخصصة لوزارة المال، علماً بأنها حصلت على 55% من هذه الاعتمادات في مشروع موازنة 2016 أيضاً، وهو أمر يثير التساؤل عما إذا كانت الوزارة تستبدل الأجهزة سنوياً وما هو مصير الأجهزة المستبدلة، فيما لديها اعتمادات لصيانة الأجهزة بقيمة 3.4 مليارات ليرة».
المبالغ المرصودة للإيجارات وصيانتها كانت كبيرة في مشروع الموازنة. فقد تبيّن أن هذا الإنفاق يصل إلى 114 مليار ليرة، بين إيجارات مكاتب ومدارس وعقارات. «هذا النوع من الإنفاق يحتاج إلى إعادة تنظيم، فهناك إيجارات مقفلة لا تستعمل، وهناك إيجارات يمكن دمجها في مبنى واحد…».
ولفت كنعان إلى أن اللجنة عدّلت المادة 17 المتعلقة بتسديد ديون وتعويضات الاستملاك التي لم تكن تلحظ الحقوق السابقة. إذ كان هناك مبلغ 850 مليار ليرة للمشاريع المستقبلية، فيما هناك ديون مثبتة بأحكام قضائية لم تكن مدرجة ضمن جدول الدفع. لذا، اتُّفق على تخصيص 217 مليار ليرة لتسديد الديون السابقة. كذلك، طلبت اللجنة تقريراً مفصّلاً من وزارة المال عن المساهمات المالية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في كل الإدارات، إذ ترد اعتمادات بالمفرق في كل إدارة عن قيمة المبالغ المدفوعة. فعلى سبيل المثال هناك 3.9 مليارات ليرة في وزارة المال و3.8 مليارات ليرة في رئاسة الحكومة… «ما هي الحاجة والجدوى إلى هذا البرنامج، وإلى أي مدى هو متغلغل في الإدارة العامة؟» يسأل كنعان.
وقد كان الاتفاق على تسديد أموال المتعهدين المتأخرة منذ سنوات، إذ يترتّب على الدولة اللبنانية مبلغ 317 مليار ليرة ستُسدَّد عبر قانون ــــ برنامج. واتفق على إلغاء البنود التي تضرب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…
وبالإضافة إلى ذلك، أجرت اللجنة تعديلات على البنود الضريبية، علماً بأن هناك بنوداً ضريبية كانت ضمن المشروع ثم فصلت عنه بسبب ارتباطها بمشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب.
خلاصة عمل اللجنة، أنه في النهاية كل وزارة تعتبر أن «الدنيا بألف خير» وأن بإمكانها لحظ ما تشاء من نفقات، وأن تعتبر عمل الدولة قائم عليها وحدها. الإحساس بالمسؤولية شبه منعدم. بعض الوزارات تخلّت عن مسؤولياتها وأناطت بالمجالس والهيئات تنفيذ نفقاتها العائدة للتجهيز والإنشاء وحتى الصيانة، فأصبحت تشكو من تخمة موظفين أو المعارين إلى الهيئات (وزارة الاتصالات على سبيل المثال). لكن «في حال العمل على مشروع موازنة عام 2017 بصورة جديّة يمكن خفض قيمة الاعتمادات الإجمالية بما لا يقل عن ألف مليار ليرة. ويبقى التحدّي الأكبر أن نتمكن من إقرار الموازنة بالإصلاحات الواردة فيها، سواء ما يتعلق بالدين العام والحفاظ على وتيرة الخفض في البنود التي أقرت، أو إعادة توزيع المبالغ التي أقرّت، وخصوصاً أن بعض الإدارات كالجيش وقوى الأمن الدتاخلي قد طالها الخفض بشكل كبير فيما لديها حاجات أساسية لإتمام عملها» وفق كنعان.
الإنفاق الصحي: الهدر بالأرقام
يلحظ مشروع موازنة 2017 نفقات استشفائية بقيمة 1177 مليار ليرة، منها 317 ملياراً للأجهزة العسكرية، تضاف إليها نفقات المعالجة في المستشفيات من أصل اعتمادات صناديق التعاضد، وبينها تعاونية موظفي الدولة بقيمة 389 مليار ليرة، ونفقات بقيمة 471 مليار ليرة ملحوظة في بند النفقات المختلفة كنفقات استشفاء. لكن هذه النفقات لا تعبّر عن كل ما تدفعه الدولة من نفقات استشفائية، إذ إن هذا المبلغ لا يتضمن المبالغ المتأخرة لصندوق الضمان الاجتماعي البالغة 1900 مليار ليرة، ولا يتضمن مساهمة الدولة في نفقات المرض والأمومة بنسبة 25%، أي ما يفوق 270 مليار ليرة… هذا المشهد يعبّر عن تشتّت الإنفاق الصحي وعن الهدر في هذا الإنفاق وترك كل صندوق يتفاوض مع المستشفيات على الأسعار بصورة منفصلة، في مقابل تغطية متفاوتة بين صندوق ضامن وآخر، فيما يبقى أكثر من نصف اللبنانيين خارج أي تغطية صحية.