لا شكّ في أنّ مشروع موازنة العام 2025 المَوضوع قَيد الدرس على طاولة مجلس الوزراء، يحمل مخالفات قانونية أو دستورية أقلّ، مقارنةً بموازنة العام السابق (2024). غير أنّه لا يزال يقدّم رؤية غير سوية من مختلف الأطراف السياسية المشاركة في حكومة تصريف الأعمال، لناحية ترشيد الإنفاق أو زيادة الضرائب، أو التعامل مع الدين العام والإصلاحات المفروض تنفيذها، أو حتى تفادي الطعون الدستورية لاحقاً بعد التصديق عليه في المجلس النيابي، إن حالف الحظّ هذا المشروع في عبور كل المَطبّات الوزارية والبرلمانية.
بالتوازي، تعمل حكومة تصريف الأعمال على الحشد البرلماني لمشروع قانون يسمح بالالتفاف على إجازة فتح اعتمادات أو صرف أموال، وهي صلاحية تُمنح من البرلمان إلى الحكومة وتُعرّض مخالفها إلى عقوبات مالية وسجنية، خصوصاً إذا كان وزيراً.
المخالفة الدستورية الأهم والأبرز، لا تزال تتجلّى بغياب قطع الحساب عن العام السابق (تنصّ المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية على وجوب أن تضع مصلحة المحاسبة العامة لدى وزارة المالية قطع حساب الموازنة الذي يجب تقديمه إلى ديوان المحاسبة قبل 15 آب، بالإضافة إلى حساب المهمّة العام الذي يجب تقديمه قبل الأول من أيلول). ممّا يعكس عدم تجرّؤ أي حكومة على كشف ما أنفقته في العام السابق هرباً من المحاسبة ودرءاً لأي محاولة لفتح الأعيُن على النفقات العامة الشاذة عن الموازنة التي حدّدت الاعتمادات المنوي صرفها.
بالتالي، بات تغييب قطع الحساب، عن عمد، عُرفاً حكومياً، إذ جرى ذلك 5 مرّات منذ العام 2017. كما أنّ غياب قطع الحساب يجعل من أرقام مشروع الموازنة بمثابة “النقش على الماء” وكأنّ تقديرات نفقات العام المقبل من وحي خيال الحكومة ومن دون أي أساس علمي.
ما هو نهج مشروع الموازنة؟
يرى المحامي كريم ضاهر، المحاضر في جامعة القديس يوسف، في حديث لـ”الجمهورية”، أنّ هذه الموازنة أخفّ حدّة لناحية التعديلات الضرائبية والمصاريف، غير أنّها تُشبه سابقاتها من جهة “التناسب بين وضع المكلّفين (دافعي الضرائب) والمواطنين من جهة، واتخاذ خطوات معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى”.
ويشرح ضاهر أسباب عدم التناسب بأنّ “النفقات الاستثنائية في الموازنة لم تستند إلى دراسة جدوى (اقتصادية أو اجتماعية) أو دراسة واقع اقتصادي”، مضيفاً إنّ توقّعات الحكومة بجباية ضريبية أكثر ممّا سبق عبر “زيادة ضعفَي أرقام الضريبة المباشرة مع زيادة في جباية الضريبة على القيمة المضافة (VAT) لا تستند أيضاً على أيّ أسُس”، خصوصاً أنّ الجباية صعبة في ظلّ التحدّيات التي يعيشها البلد في الجنوب والبقاع بالإضافة إلى تقارير FATF (التي تهدّد بوضع لبنان على اللائحة الرمادية مالياً)، بالتالي إنّها “موازنة تقطيع وقت”.
إدارة الدَين العام
وفقاً للمادة الخامسة من مشروع الموازنة، تقترح الحكومة زيادة الاقتراض لتغطية العجز. وتُظهر الأرقام الواردة في المشروع أنّ حجم الدين يُتوقع أن يصل إلى 17 تريليون ليرة لبنانية، في زيادة مقارنةً بالسنوات السابقة. بالتالي يشرح ضاهر أنّ “تنفيذ الموازنة قد يتخطّى العجز بأرقامها، لكنّ حَدّ الاستدانة يجب أن ينحصر بالـ17 تريليون، لأنّ التجاوز يستوجب قانوناً”.
كما أنّ مشروع الموازنة لم يلحظ أي تعاطٍ مع سندات الـ”يوروبوندز”، التي تؤشّر إلى دعاوى مخاصمة للدولة ستُرفع في الشتاء، فأوضح ضاهر أنّ “النفقات هي جارية وليست استثمارية، أي أنّ العقلية تكمن في تهرّب حكومة تصريف الأعمال من مسؤولية التعاطي مع الديون والأزمة، على اعتبار أنّ ذلك من مسؤولية الحكومة التي يجب أن تُشكّل بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية”.
لذلك، يرى رئيس لجنة المودعين السابق في نقابة المحامين، أنّ “الموازنة منفصلة عن الإصلاحات والواقع الاقتصادي-الاجتماعي، وليست جدّية بالتعاطي مع خطة التعافي. والحكومة ليست بصدد إنجاز قانون إصلاحي واحد على أي صعيد. ممّا سيؤدّي إلى ترك الناس لمصيرهم بمواجهة كارتيلات الموتورات والمحميات السياسية في التهرّب الضريبي وللاعدالة الاجتماعية والضريبية” لأنّ 80% من الضرائب هي غير مباشرة، أي أنّ الكل يدفع بنفس القدر بدلاً من أن يدفع أكثر مَن يتقاضى أكثر.
إعفاءات غير مَوزونة
وأشار ضاهر إلى أنّ مشروع الموازنة يلحظ إعفاءً على رسوم الانتقال إلى ما قبل العام 2007، علماً أنّ وزارة المالية لديها الحق قانوناً بجباية حقوقها حتى 5 أعوام من تاريخ اكتشافها، لذلك يبرز هنا “خوف لدى البعض بعودة وزارة المالية بالجباية إلى ما قبل الـ2007 حتى في حال اكتشافها لعمليات سابقة، وهي عملية تفاضلية تعطي امتيازاً لبعض المنتفعين على التهرّب من دفع مستحقات للخزينة العامة”. علماً أنّ لبنان شهد مرّة وحيدة عملية تبييض ما، سبق وكانت في العام 1994، نتيجة اختفاء العديد من الوثائق المالية خلال الحرب الأهلية.
نهج الإعفاءات ليست بجديد، إنّما يتكرّر في كل عام وفي كل موازنة، ويعتقد ضاهر أنّه “مثلاً المادة 40 من مشروع الموازنة يمنح إعفاءً للتهرّب من الالتزام الضريبي بخصوص التسجيل في العقارية. ومثل هكذا إجراءات تدفع الناس إلى التخلّف عن الدفع بانتظار أن يصدر إعفاء يوماً ما”، وهنا يكمن السؤال: كيف للحكومة أن توقّع توسّعاً في الصحن الضريبي في ظلّ إقرارها إعفاءات جديدة؟
ولتوسيع الصحن الضريبي وزيادة الجباية، ألم يكن يجدر ببعض النفقات الاستثمارية أن تكون على المكننة في وزارة المال وسياسات تحفيز تحصيل الضرائب وتبادل المعلومات مع الخارج عن المكلّفين اللبنانيِّين؟
توزيع النفقات
يظهر في مشروع الموازنة أنّ هناك “تركيزاً على النفقات الاستثمارية” المتعلّقة بالبنية التحتية مثل مرفأ بيروت (13 مليار ليرة)، ومشاريع تتعلّق بوزارة المالية. فمثلاً خُصِّص للقطاع الصحي 2% فقط من إجمالي الموازنة. وذلك لأنّ القسم الأعظم من نفقات الموازنة ستُدفع على الرواتب والأجور ومخصّصات الوظائف الحكومية، لكن من دون أن تنوي الحكومة رفع أجور العاملين في القطاع العام، ممّا يعني أنّ التضخّم سيأكل القدرة الشرائية للموظفين، في ظلّ خضّات مالية واقتصادية متوقعة للبنان منذ مطلع العام المقبل، أي أنّ نسب التضخّم سترتفع أشواطاً من دون رحمة على القدرة الشرائية للموظّفين الحكوميِّين (خصوصاً عناصر القوى الأمنية والجيش). علماً أنّ مصرف لبنان هو مَن سيحدّد منفرداً سعر صرف الرواتب التي لا تدخل ضمن سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، من دون العودة إلى وزارة العمل كما في السابق.
الضرائب والإيرادات
تشير المادة الثالثة إلى أنّ الإيرادات المتوقعة من الضرائب تشكّل زيادة عن العام السابق، لكن لا تتضح كيفية زيادة الإيرادات بهذا الحجم مقارنةً مع نسب رفع الضرائب. والسؤال هل ستزيد الحكومة من حجم “صحنها الضريبي”؟
بكلامٍ آخر وأبسط، تتجاوز نسب التهرّب الضريبي الـ65%، ممّا يجعل المتهرّبين ضريبياً بمثابة فطريات تعيش على حساب دافعي الضرائب. وزيادة أي ضريبة ستكون على مَن هو معتاد على الدفع في دولة غير قادرة على فرض سلطتها على كافة أراضيها.
لكن من جهة أخرى، تأتي المادة 18 كواحدة من “فرسان الموازنة”، وأتت بفعل ضغط المنظمات الدولية، وهي تتناول بحسب ضاهر “توجّب ضريبة إضافية على صاحب الحق الاقتصادي، بعد الضريبة المفروضة على المالك الظاهر للأسهم، أي سيتوجّب رفع السرّية المصرفية لتحديد هوية صاحب الحق الاقتصادي بفعل الحوالات المالية”.
قروض وديون واعتمادات استثنائية
في المادة السادسة، تُفتَح الاعتمادات الاستثنائية من دون وضوح كامل حول كيفية إدارة هذه الأموال، ممّا سيُشكّل “خرقاً لمبدأ الشفافية المالية” بحسب الدستور وقانون المحاسبة العمومية. ومن أبرز هذه الاستثناءات المنوي صرفها ستكون مشاريع مياه الشرب، تجهيزات فنية متخصّصة للوزارات (طاقة وبنى تحتية)، صيانة تجهيزات فنية لمرافق الدولة (مطار ومرفأ بيروت)، تجهيزات نقل حكومية جديدة، نفقات الدفاع والطاقة الخاصة بالأجهزة الأمنية، تجهيزات المعلوماتية في قطاع التعليم.
وفي هذه الاعتمادات الاستثنائية، تفوح رائحة صفقات مع متعهّدين وشركات خاصة، ستسعى بدعم سياسي إلى إجراء تعاقدات لتنفيذ هذه المشاريع من خلال الهروب من قبضة إدارة المناقصات، وأي جهة رقابية قضائية قد تفتح العين على الجهات المتعاقدة والمنفّذة والمنتفعة من هذه المشاريع التي بحسب العادة اللبنانية لا تكتمل.