أقفل ملف موازنة عام ٢٠١٩ بعد انقضاء ثلاثة أيام من النقاشات الحادّة التي «لا بتقدِّم ولا بتأخِّر»، و«سوق عكاظ» سياسي لا يُسمن ولا يُغني عن جوع الشعب الى منجزات، قضاها النواب في مناقشة ٩٩ بنداً، وانتهت بإقرار الموازنة، ومن دون قطع حساب، بتصويت ٨٣ نائباً مع الموازنة، وتغيّب ٢٧ نائباً عن الجلسة وامتناع نائب واحد عن التصويت، فيما صوّت ١٧ نائباً ضدّها.
عنوان الموازنة «التقشفيّة» الهجينة الرئيسي هو خفض العجز العام الى ٧،٥ في المائة لعام ٢٠١٩، وفعلياً ستُطبّق على آخر خمسة أشهُر من السنة الحالية. في المقابل، فإن العجز خلال الأشهر السبعة الأولى من العام يُتوقّع ان يكون مرتفعاً، فكيف يمكن تحقيق نسبة ٧،٥ في المائة عجز، علماً بأن وكالة التصنيف الدولية «ستاندرد اند بورز» قدّرت نسبة العجز للناتج المحلي عند ١٠ في المائة؟
الجواب بسيط: موازنة لبنان «التقشفية»، التي تأخرت الحكومة اللبنانية ٧ أشهر عن إقرارها في موعدها الدستوري، هي موازنة ورقيّة إعلاميّة، هدفها تحقيق متطلبات مؤتمر «سيدر» على الورق!
وفيما لم يتضح حجم العجز الحقيقي في الموازنة بسبب تجميد بعض البنود الخلافية وإلغاء أخرى، كان واضحاً بروز «الخطوط الحمراء» و«المحميّات السياسيّة»، واستهداف مؤسسات تابعة لجهّة معيّنة، مما أثار إستياء الطائفة المعنيّة!
ولقد جاءت موازنة ٢٠١٩ خالية تماماً من أي رؤية اقتصادية أو اجتماعية، ولم تربط ما بين الجباية الضريبية والخدماتية وانعكاساتها على الدورة الإنتاجية والاستهلاكية والاستثمارية في البلد، ولا بين الإنفاق ونتائجه على الاقتصاد ومعدلات النموّ. وهي تترجم سياسة الحكومة الرامية الى خفض العجز عبر تحصيل إيرادات بسرعة، دون أي خفض فعلي للإنفاق المجبول بالهدر.
وبالتالي، حملت الموازنة «غير الموزونة» أو المتوازنة، عاصفة من الضرائب والرسوم التي ستصيب الاقتصاد المتداعي أساساً بالمزيد من الانكماش. وأقرّت المزيد من الإعفاءات والتخفيضات على الغرامات لصالح الشركات والمؤسسات التي لم تدفع الرسوم والضرائب للدولة! وهي حدّت من الضمانات الاجتماعية للطبقات «المستورة»، فيما تجنّبت ضبط الهدر ومكافحة الفساد في المرافق العامّة!
لقد أصبحت موازنة ٢٠١٩ خلفنا، ولكنّ الوضع يُنذر بوقوع أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة إذا لم يتمّ تصحيحه باكراً في موازنة العام ٢٠٢٠، بما في ذلك إقرار رؤية اقتصادية واضحة، وتجفيف مواقع الهدر والفساد التي تستنزف المالية العامة، والتي تبدأ بالتهرّب الضريبي والجمركي وتمرّ عبر الإستيلاء على الأملاك العامة البحرية والنهريّة، وصولاً الى العجز المستشري في قطاع الكهرباء، والنفقات غير الضروريّة، وملف سكك الحديد، والمؤسسات غير الفاعلة. كما يجب اتخاذ قرارات جريئة حيال المحميات والامتيازات السياسيّة التي كان لها دور وازن في إيصال الوضع إلى ما هو عليه من تدهور قد يصعب الخروج منه.. و«مش كل مرّة بتسلم الجرّة»!