لا يقدّم الموفدون الغربيون والوسطاء، أو حتى مسؤولو العدوّ الإسرائيلي جديداً، عندما يطرحون في السرّ والعلن فكرة إقامة «منطقة عازلة» في جنوب لبنان، لضمان إبعاد رجال المقاومة اللبنانية إلى شمال الليطاني.هو مطلب قديم متجدّد، يرتبط بأصل وجود دولة إسرائيل على أرض فلسطين، كحالة احتلال استعماري عنصري مفروض بالقوّة الخارجية على منطقتنا. فـ«المنطقة العازلة»، كانت مطلباً قديماً على الجبهة الأردنية، ثم في الجولان السوري وشبه جزيرة سيناء، ودائماً في جنوب لبنان.
منذ صباح 8 أكتوبر 2023، انطلق الدبلوماسيون والأمنيون الغربيون لثني حزب الله عن مساندة المقاومة الفلسطينية في غزة، مهدّدين باحتمال هروب بنيامين نتنياهو إلى الأمام بعدوان على لبنان والمطالبة «بتنفيذ» القرار الدولي 1701.
إلّا أن كل الوساطات والتهديدات، قوبلت ولا تزال تُقابل بخطاب واحد فحواه أن وقف إطلاق النار من جانب لبنان لا يتمّ إلّا بوقف الحرب على غزة.
مطالب الموفدين الدوليين وتهديداتهم، انهارت تدريجياً حتى وصلت إلى مطلب إبعاد فرقة «الرضوان» عن الحدود الفلسطينية. وذريعة هؤلاء، حاجة إسرائيل إلى طمأنة مستوطنيها الهاربين في مستوطنات «الشمال»، بأنهم لن يستفيقوا يوماً ما على رجال «الرضوان» في غرف نومهم، ذات «7 أكتوبر لبناني» محتمل.
ومع ذلك، رفض «حزب الله» حتى النقاش في أصل فكرة وقف إطلاق النار، ما دامت حرب الإبادة في فلسطين مستمرة، واعتبار إسناد المقاومة الفلسطينية خياراً وجودياً، من دون أن تقدّم حتى تطميناً شكلياً، مع إعلان السيد حسن نصرالله أن الحرب المفتوحة ستكون بلا سقوف أو ضوابط.
المساعي الدولية في الآونة الأخيرة، اتّخذت مساراً موازياً لمسار الحديث عن المطالب العسكرية المباشرة، وانتقلت للبحث عن ترتيبات لما بعد الحرب. فالاقتراح البريطاني بإنشاء أبراج مراقبة على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، وإدخال أعداد كبيرة من جنود الجيش اللبناني (تفوق أعداد مقاتلي المقاومة بالحسابات الغربية)، تزامن مع نقاشات لتطبيق 1701 في شقوقه الداخلية بما يخصّ وجود السلاح في لبنان بشكل عام و«حلّ» المسائل التي يظنّها الغربيون العوائق الوحيدة أمام «السلام» بين لبنان وإسرائيل، كالنقاط اللبنانية المتحفّظ عليها والانسحاب من الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
لكن كل هذا «الضجيج» الدبلوماسي، المرتفع السقف، مثل «المنطقة العازلة»، أو إبعاد رجال «الرضوان» عن الحدود، لم يفلح حتى الآن في رسم صورة واضحة عند الغربيين، عمّا يمكن فعله في جنوب لبنان، طالما أن التهديدات الإسرائيلية يعرّيها الميدان بما تقوم به المقاومة، وهزيمة إسرائيل «المتهوّرة» أمرٌ محتم.
اليوم، وبالحرب «المضبوطة»، تخوض المقاومة عمليات معقّدة للغاية تشغل العدو وتربكه. يحصل ذلك بالرغم من الظروف الميدانية الشديدة التعقيد، إذ تواجه المقاومة عوائق موضوعية متعلّقة مباشرةً بطبيعة المنطقة الحدودية الجغرافية والسياسية، كذلك هناك التفوق الجوي الكامل للعدوّ، وهناك «ضوابط» أخرى فرضتها قيادة المقاومة على برامج عملها العسكري، وفي مقدّمها السعي إلى عدم توسعة رقعة الحرب وتجنيب المدنيين اللبنانيين أي أضرار، ما يرفع من الكلفة البشرية للمقاومة.
وحين أساء جيش العدو فهم مقاصد المقاومة، وفسّر إجراءاتها باعتبارها دليل ضعف، وجّهت المقاومة رسائل التصعيد العنيفة على بعض المواقع الاستراتيجية العسكرية كقاعدة «ميرون» ومقر القيادة الشمالية في صفد، كما استهدفت بعض منظومات القبة الحديدية بالمُسيّرات وأصابتها.
لا تملك المقاومة من حلول، سوى أن يعود الجميع إلى ما كان عليه الوضع مساء 6 أكتوبر
ومع تمادي الاعتداءات على البيوت المدنية في الجنوب، كرّست معادلة «بيت مقابل بيت» بعد أن كانت قد تفادت استهداف البيوت المدنية حتى لو كان في داخلها جنود، كما في بداية الحرب، وبدأت تزّج بأسلحتها الجديدة في المعركة وتختبرها ضد العدو لأسابيع قبل أن تعلن عنها، كالصواريخ الانقضاضية مثلاً، في معركة «عقل قبل العضلات”.
لكنّ الأهم، أن المقاومة حتى الآن لا تخوض عملياتها بأي من «عدّة» الحرب الشاملة، بل بما يعرفه العدوّ، وتمرّر مفاجآت محدودة لتترك المفاجآت للحرب المفتوحة، ذات الخيارات الواسعة وخطوط الإمداد العميقة.
في المقابل، يشكل الأداء الإسرائيلي بالنسبة إلى المقاومة اللبنانية في الحرب على غزة، اختباراً للقدرات العسكرية التي راكمها العدو منذ ما بعد تجربة حرب تموز عام 2006، والتي تضمّنت عمليات ضخمة للمشاة واستخداماً واسعاً للعمليات الجوية. لكن، الذي حصل عملياً، هو أن الحرب على غزة، أفقدت العدو عنصر المفاجأة، بالتوقيت والأسلحة، وفعّالية القوات البرية وانتشارها، ما يبعده عن أي أمل بالنصر العسكري. كما انكشفت عدم قدرة إسرائيل على شنّ حرب منفردة من دون الإمدادات الأميركية، وغياب «الضوء الأصفر» من واشنطن، التي تخشى انهيار مشاريعها في الإقليم مع هزيمة إسرائيل المحتومة في لبنان.
كل هذه العناصر تمنح المقاومة ثقةً، وتجعل الحديث عن المنطقة العازلة، كلاماً من خارج الواقع، وتدفعها للتمسك أكثر بالمعادلة الحالية، أي وقف إطلاق النار في الجنوب مع وقف الحرب على غزة، والعودة بعد الحرب إلى ما كانت عليه الأمور مساء 6 تشرين الأول 2023 من دون أن تقدّم أي تنازل.
أمّا بما خصّ قوة «الرضوان»، فقد سمع الموفدون مراراً وتكراراً، أن هؤلاء هم أبناء الأرض، وصاروا رايةً للجنوبيين الذين يقاتلون دفاعاً عن بيوتهم في كل شبر من جنوب الليطاني وشماله، ودفاعاً عن غزّة، وهم باقون هناك، أو كما يعلّق أحد المقاومين «كل الجنوب هو الرضوان، والرضوان هو الرمح الموجّه إلى صدر إسرائيل، كلّما اندفعت انغرس في قلبها».