في وضعية متأرجحة بين «نصف حرب» و»نصف مفاوضات»، ينفّذ الإسرائيليون مشروعهم للجنوب عن طريق المراوغة. فهل يستفيق اللبنانيون على هذا الخطر قبل فوات الأوان؟ أم سيبقون نائمين كما ناموا على كل الملفات الخطرة الأخرى كملف النازحين وسواه، حتى صارت غير قابلة للمعالجة؟
عندما يقول بنيامين نتنياهو إنّه سيواصل الحرب في غزة حتى القضاء على «حماس»، فإنّه يخبئ الهدف الحقيقي. فالمسألة الأمنية في غزة مهمّة، لكن هدف الإسرائيليين الأول هو إنهاء غزة شبه المستقلة وإخضاعها وتهجير غالبية أهلها وتذويبها تماماً بزرع المستوطنات فيها بكثافة، كما فعلوا ويفعلون في الضفة والقدس ومناطق أخرى من أرض فلسطين التاريخية.
الهدف الاستراتيجي هو استكمال بناء الدولة اليهودية كما يفهمونها. وأما مواجهة «حماس» فهي جزء تفصيلي من الهدف. ومن المثير أنّ إسرائيل تحافظ على عنوان القتال ضدّ «حماس» حتى القضاء التام عليها، فيما هي تقوم واقعياً بأكبر عملية تدمير وتهجير للمدنيين، تحت ضغط الترهيب المتواصل بأكثر الصواريخ والقنابل فتكاً.
أي، في الطريق للقضاء على «حماس»، سيتحقق الهدف الكبير أي «القضاء على غزة». وعندما يتمّ اجتياحها، يتراجع تلقائياً دور الحركة حتى الاضمحلال، أو تنتقل من أسلوب المواجهة القتالية إلى أسلوب العمليات ضدّ الأهداف الإسرائيلية في القطاع.
وتجنّباً لهذا الخطر، يطرح الإسرائيليون تسليم أمن القطاع إلى قوات دولية وعربية، فيما تكون لهم السيطرة «من فوق»، ومن دون أن يدفعوا الثمن.
هذه الخطة «الخبيثة» تفسّر رغبة نتنياهو وأركان حكومته في المراوغة وإطالة أمد الحرب في غزة، وإلهاء الولايات المتحدة والأوروبيين والعرب بمفاوضات عبثية. فاستمرار الحرب بالوتيرة الحالية سيكفل تحقيق الهدف الأكبر.
هذا النموذج الذي يعتمده الإسرائيليون في غزة يعتمدونه أيضاً في الجنوب اللبناني الواقع بين «نصف حرب» و»نصف مفاوضات». فهم أعلنوا بوضوح منذ اللحظة الأولى رغبتهم في الوصول إلى وضع هناك يبعدون فيه خطر «حزب الله» وصواريخه، بأي شكل كان. وقد كلّفوا الوسيطين الأميركي والفرنسي نقل الرسائل إلى لبنان بهذا المعنى.
الإسرائيليون ليسوا متمسكين بالقرار 1701 تحديداً، لأنّه يعوق حراكهم الجوي فوق الجنوب ونشاطهم البري والبحري على خطوط التماس. وهم يريدون خلق منطقة ذات عمق كافٍ لإبعاد صواريخ «الحزب». وقد قلّص الإسرائيليون طموحاتهم في هذا الشأن من خط الليطاني إلى مسافة 10 كلم عن الحدود ثم 7 كلم. لكن «الحزب» رفض العروض، لأنّه لا يريد وقف حرب «المشاغلة» وفك الارتباط بين الجنوب وغزة.
في كل يوم، يطلق الإسرائيليون تهديداتهم بردّ صاعق يستهدف لبنان وبناه التحتية إذا لم يتجاوب «الحزب» مع هذا المطلب. وينكّب المحلّلون على دراسة الخيارات الإسرائيلية في هذا الشأن: هل يضربون لبنان فيما حرب غزة مشتعلة، أم ينتظرون انتهاءها أم خلال الهدنة؟ ولكن، في الواقع، هم يحاولون تحقيق النتائج التي يريدونها من دون حرب واسعة مع لبنان.
خلال المواجهات الجارية في الجنوب، تكّبد لبنان مئات القتلى والمعوقين، وبينهم كوادر في «حزب الله». وأيضاً، يتزايد حجم الدمار في القرى الحدودية. وبعض الصور المنشورة أخيراً تُظهر أنّ هناك أحياء واسعة مدمّرة كلياً أو جزئياً.
وإذا استمر القتال في الجنوب اشهراً أخرى، ربطاً بحرب غزة، فإنّ قرى كاملة قد تصبح مدمّرة، عدا عن كونها مهجّرة تماماً، فيما تستمر العمليات القتالية فيها وحولها. وسيكون إعمار هذه القرى وإعادة الأهالي أحد الاستحقاقات الأساسية في بلد مفلس، ولم يعد يتلقّى مساعدة من أحد.
عملياً، ستكون إسرائيل قد خلقت المنطقة العازلة التي تريدها، بطريقة غير مباشرة، من خلال عمليات التدمير والتهجير. ولن يبقى إلّا تكريسها لاحقاً باتفاق مع الدولة اللبنانية و»حزب الله»، تماماً كما هي تقوم بتدمير رفح وإفراغها تدريجاً، وعن طريق القضم، فيما الجميع منشغلون بالسؤال: هل ستقوم إسرائيل باجتياح المدينة أم لا؟ وفي النهاية، ستتمّ تسوية تنهي الحرب في غزة، وسيكون القطاع مدمّراً ومهجّراً بنسبة كبيرة، ما يسهّل فرض الأمر الواقع الإسرائيلي.
وما تقوم به إسرائيل في غزة ولبنان يذكّر برواية قديمة قيل إنّها عن تاجر كان يبيع البندورة بسعر الشراء، ومن دون زيادة فلس واحد. فاستقطب السوق وأجبر التجار الآخرين على الإقفال. وعندما احتكر السوق، أخذ يحقق الأرباح المضاعفة.
سُئل التاجر: كيف صمدتَ بلا أرباح، فأجاب: لأنني استوردت كميات كبيرة، استفدت من بيع أعداد هائلة من الصناديق الفارغة، سمحت لي بالانتظار حتى يئِس الآخرون.
الفحوى هو أنّ الإسرائيليين يسلّطون الضوء على أمور معينة، فيما تكون الأمور التي يريدون تنفيذها فعلاً على الهامش. فهل يتعلّم العرب؟