يئس المراهنون على الخارج من الحصول على المساندة المطلوبة لفرض رئيس للجمهوريّة خلاف الإرادة اللّبنانيّة الّتي فرزتها صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة.
صحيح أنّ تركيبة المجلس معقّدة، وصحيح أنّ توزيع المقاعد لا يرجّح كفّة فريق على فريق آخر بشكل واضح وقاطع، لكنّ الصّحيح أيضا أنّ عدداً لا بأس به من النّوّاب يقعون في المنطقة الرّماديّة ويشكّلون وزناً كافياً لإمالة دفّة هذا الفريق أو ذاك، فمن الأقدر على استمالتهم، ووفق أيّ حسابات؟
لا يخفى على المتابعين بأنّ رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي يقود معركة الاستحقاق الرّئاسي وفق مبادئه وحساباته الوطنيّة، واستناداً إلى علاقاته الدّاخليّة الّتي تتراوح بين التّحالف والصّداقة والخصومة.
فأبعد الأطراف عنه أقرب إليه من أقرب الحلفاء إلى بعضهم في الحسابات الرّئاسيّة، وهذه ميزة حافظ عليها برّي منذ تولّيه رئاسة المجلس حتّى غدا علامة جمع في عزّ الانقسامات، واقترن اسمه بالحوار والتّلاقي لقناعته بأنّ «لبنان لا يُحكم إلّا بالتّوافق».
وقد دأب منذ نهاية عهد الرّئيس السّابق ميشال عون على التّأكيد بأنّ الحلّ داخليّ لانصراف الخارج، الدّولي والإقليمي، إلى هموم أكبر من لبنان، لذلك دعا مرّتين إلى الحوار من أجل ملء الفراغ الرّئاسيّ، واصطدم مرّتين برفض كلّ من القوّات والتّيّار فدخلنا في مراوحة الجلسات العقيمة الّتي انعقدت إحدى عشرة مرّة وصارت مهزلة مدعاة للسّخرية.
وجهة نظر برّي أكّدها لقاء باريس الخماسي الّذي خرج بصفر نتائج ومن دون بيان ختامي واضح، ما عكس حال التّململ والإنقسام لدى الدّول المشاركة حول مقاربة الملفّ اللّبناني.
في المقابل يبرز رئيس حزب القوّات اللّبنانيّة سمير جعجع كقائد للمعارضة، يتمترس خلف شعارات الفرض والتّحدّي علماً بأنّه لا يملك الثّلث المعطّل، وقت الجد.
يلعب جعجع على الخلاف الحادّ بين التّيّار الوطنيّ وحزب الله، فقد استغلّ سقوف جبران باسيل العالية وسحبه إلى ملعبه المفضّل ليزايد عليه بين جمهوره المعبّأ طائفيًّا ضدّ حزب الله بسبب تفاهمه مع باسيل، وبناء على هذه المعادلة انقلب جعجع على تعهّده العلنيّ بتأمين النّصاب في حال استطاع الفريق الآخر جمع 65 صوتاً لأيّ مرشّح كان، وذهب بعيداً بالتّحذير من تغيير الصيغة إذ وصل مرشّح خصومه.
لهذا الانقلاب أسبابه حسب مصادر مطّلعة:
– تأكّد جعجع وفريقه بأنّ حليفه الأساسيّ، المملكة العربيّة السّعوديّة، لا تمانع ولا تدعم وصول أيّ مرشّح إلى الرّئاسة، والقيادة في الرّياض ستحكم على الأداء وليس الأسماء.
– انتقال الرّئيس نبيه برّي إلى الخطّة باء، أي الانتخاب وفق الآليّات الدّستوريّة بنصاب 86 نائباً وانتخاب 65 صوتاً.
– انتقال زعيم المختارة إلى منطقة الوسط بعد تبنّيه السّابق لمرشّح جعجع ميشال معوّض وقد يكمل استدارته باتّجاه صديقه برّي.
– تخفّف النّوّاب السّنّة من عبء الضّغط المعنوي بعد اطمئنانهم إلى حياد الموقف السّعودي.
مقابل الضّجيج الّذي يحدثه جعجع وقيادات قوّاتيّة وأخرى حليفة، يعمل رئيس المجلس بصمت على خطوط متعدّدة داخليًّا وخارجياً، فعلى المستوى الخارجي لم تزده اللّقاءات الّتي أجراها، بالمباشر أو بالواسطة، إلّا يقيناً بأنّ المسؤوليّة تقع على عاتق اللّبنانيين، هذا ما سمعه بنفسه من السّفيرة الأميركيّة في بيروت ومن الفرنسيين وغيرهم من المعنيين بالملفّ اللّبناني.
والأهم بالنّسبة للرّئيس نبيه برّي هو التّأكّد من موقف المملكة العربيّة السّعودية بعيد الكثير من اللّغط والتأويل، فكان اللّقاء الّذي جمع المعاون السّياسيّ النّائب علي حسن خليل مع السّفير وليد بخاري منذ عشرة أيّام حاسماً في تثبيت قناعات برّي بحياد المملكة الإيجابي.
لقاء بخاري – خليل دام أربع ساعات متواصلة، وكان إيجابيًّا في شكله ومضمونه، فقد تمّ طرح معظم الملفّات ذات الصّلة بالاستحقاق الرّئاسي وما يتعلّق به في المرحلة المقبلة بصراحة وشفافية، وأكّد خليل حرص الرّئيس برّي ومن يمثّل على عودة أفضل العلاقات مع الأخوة العرب وعلى رأسهم المملكة العربيّة السّعوديّة، فيما أكّد السّفير بخاري عدم ممانعة بلاده أو دعم أي اسم للرّئاسة، فهذا شأن داخليّ وما يهمّ المملكة هو السّياسة المتّبعة اتّجاهها وأداء الرّئيس العتيد.
وبناء عليه أطلق برّي موقفين لافتين خلال كلمته الّتي ألقاها في افتتاح السّفارة الإيرانيّة الجديدة في بيروت:
«- نتطلع بأمل كبير بأن يكون هذا اليوم الذي ندشّن فيه مبنى جديد للسفارة الإيرانية في بيروت بارقة أمل ليس ببعيدة ، نحتفل فيه بعودة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع محيطها العربي والإسلامي، وخاصة مع المملكة العربية السعودية في سياقها الطبيعي..
– مدعوون كلبنانيين أن نثبت للعالم وللشّقيق والصّديق أنّنا بلغنا سنّ الرّشد الوطني والسّياسي ونملك الجرأة والقدرة والمسؤوليّة الوطنيّة والمناعة السّياسيّة والسّيادية لصناعة توافقاتنا وانجاز استحقاقاتنا الدّاخليّة والدّستوريّة بأنفسنا…».
ثمّة يقين لدى جميع المتابعين بأنّ الرّئيس نبيه برّي يحسب الأصوات بالأسماء من أجل الذّهاب إلى جلسة منتجة يتصاعد فيها الدّخان الأبيض ليعلن عن اسم الرّئيس الجديد.
وفي هذا الإطار يحاول فريق المعارضة تغطية انقلابه على مواقفه السّابقة بادّعاء أنّ الرّئيس برّي عطّل الجلسات الثّانية سابقاً لأنّ عدّاد الأصوات لم يكن يناسبه، ورداً على هذا الادّعاء يقول مصدر قريب من الثّنائي:
– أوّلاً الفريق الآخر لم يكن يملك 65 صوتاً وبالتّالي فإنّ الجلسة الثّانية والعاشرة ستكون مثل الأولى.
– ثانياً حاول الرّئيس برّي صياغة تفاهم عبر الحوار للذّهاب إلى الجلسة بمرشّحين جدّيين، وهذا ما رفضه الفريق الآخر الّذي كان يطالب بجلسات مفتوحة.
– ثالثاً يدّعي «السّياديّون» بأنّهم مع الطّائف ويتّهمون الثّنائي بالسّعي لتغيير الصّيغة وعند الاستحقاق يهربون من الدّستور.
– رابعاً وأخيراً فليتحمّل المعطّلون تبعات تعطيلهم أمام النّاس والخارج.
في الختام يشير المصدر إلى أنّ نصيحة أسديت إلى باسيل بأنّ يتمتّع بالمرونة والبراغماتيّة وألّا يذهب إلى حيث يجرؤ جعجع، فليس من مصلحة لباسيل بقطع الجسور مع حزب الله وليس من مصلحة للتّيّار الوطني بتبنّي الخطاب الطّائفي الّذي يمهّد الأرضيّة للتّفكير مجدًّدا بالتّقسيم، وهي فكرة غير قابلة للتّحقّق وثمن دفنها مجدًّا سيدفعه كلّ اللّبنانيين وبالأخصّ المسيحيّون.