كلام في السياسة |
لم تعد تنتهي لوائح حوادث العنف المسجلة في لبنان. لم يعد يحصيها أي أرشيف أو موقع بحثي أو سلطة مختصة. صارت حوادث العنف ــــ حتى الأكثر وحشية ــــ خبراً من المتفرقات اليومية في وسائل الإعلام. لا يصمد منها جزئياً وبشكل موقت، إلا ما يتمتع منها بطابع الإثارة. فيتحول ظرفياً مادة للجذب الإعلامي. لمجرد تعبئة وقت الجمهور، في انتظار السبق الأعنف التالي.
طبعاً قيل الكثير عن مسؤولية التفلت من العقاب، عن ازدياد ظاهرة العنف. بعض المرتكبين تحول شخصيات من النوع الهوليوودي، في تقمصه أدوار القتلة المتسلسلين.
مع فارق أنه في الأفلام يولد القاتل المتسلسل نتيجة عجز السلطات الرسمية عن اكتشاف هويته. في لبنان، يولد المرتكب المتسلسل رغم معرفة هويته أو بفضل ذلك… لا خطيئة حيث لا شريعة، يقول اللاهوت. أما في الجزاء، فحيث لا عقوبة تصير الجريمة واقعاً يومياً مستداماً. المعادلة في كل العالم بديهية: عقاب صفر. جريمة مئة في المئة. وما بين الرقمين تواز في صعود الجريمة أو هبوطها، مع غياب المحاسبة أو حضورها.
قيل أكثر في لبنان عن أسباب العنف الجنائي. يظهر هنا سبب أساسي آخر، هو عجز المؤسسات العلاجية أو الاحتوائية، عن معالجة المرتكبين. أي أن سبباً آخر لتفشي العنف الجنائي هو واقع السجون في لبنان. لا بل النظام السجني ــــ العقابي برمته. حيث يتحول السجن من عقوبة مفهومة إلى انتقام غير مفهوم وغير مقبول. وحيث يصير الإجراء العقابي الوقائي، أو السجن، خطوة أكيدة نحو تصعيد أسباب العنف لدى السجين، وتأجيج مشاعر الحقد والثأر وحوافز تكرار الارتكاب بعنف أكبر ونزعة إلى التفلت من السجن أشد.
كل الأسباب المذكورة صحيحة. لكنها غير كافية قطعاً لتفسير ظاهرة العنف عندنا. كل الأسباب السابقة، قد تكون شافية لو أن العنف المشكو منه، ظل في الإطار الفردي. لو أن الوحشية التي نعاني منها، اقتصرت على قتل أب بسكين على خلفية إشكال مروري، أو القضاء على طفل للتنصل من جناية خطف، أو إطلاق نار على شاحنة أو على سيارة في شقرا أو فاريا… لكن عنفنا المرضي تخطى الفرد عندنا. تجاوز مفهوم الجناية الفردية الشخصية. لم يعد مجرد عنف عارض ظرفي في لحظة تخل أو بدافع فرداني. صار مرض عنفنا سرطانياً. متفشياً. قاتلاً أكثر من قتل ضحية العنف الفردي. لأن عنفنا انتقل من الفرد إلى مستويات ثلاثة أعلى وأخطر:
أولاً، صار عنفاً على مستوى العائلة. تحول العنف إلى مسألة منظمة وثابتة ضمن مؤسسة دائمة. لا بل، أخطر ما في عنف العائلات، أنه يصير عطباً قاتلاً داخل المؤسسة الأولى في المجتمع. هكذا يصير العنف داخل العائلة، بين أهل وأطفال، أو بين والدين، عنفاً مؤسساً ومولداً لعنف مقابل على كل المستويات، ولكل المدى الزمني اللاحق.
ثانياً، صار العنف عندنا على مستوى الجماعة. لم يعد مجرد جريمة بين فرد وآخر، على خطورة هذه. ولم يكتف بأن تفشى إلى النواة الأولى للمجتمع البشري أو العائلة، بحيث صار العنف داخلها منبتاً لعنف دائم مستقبلي موروث لأجيال. بل الأدهى أنه صار عنفاً جماعياً. عنف من مجموعة كاملة من البشر، ضد مجموعة كاملة أخرى. وهو العنف الأكثر وحشية. لأنه يتذرع بمقدسات الجماعة. بشرفها أو بعرضها، بتاريخها أو بغدها، بوجودها أو بمصيرها … يصير ما تسميه الأنتروبولجيا «العنف المقدس». وهو الأكثر تشنيعاً وتفلتاً من أي ضابط إنساني أو أخلاقي. لأنه يتحول عنفاً واجباً. نوعاً من الالتزام بفرض تحدده مسلمات الجماعة. هكذا رأينا عنف داعش وعنف كل الأديان الأخرى في مراحل سوداء من تاريخها. عنف الجماعة هذا، مقيم عندنا. لا بالدم وحده. بل أيضاً بالكلام والموقف والسلوك والنظرة إلى الآخر، فرداً كان أم جماعة.
بقيت طامة العنف الكبرى عندنا، أنه صار عنف دولة. صارت الدولة نفسها مصدر العنف. دولة كاملة بكل مؤسساتها وأشخاصها، الحقيقيين والمعنويين، تحولت فاعلاً للعنف، بلا ضوابط انتظام عام، ولا قواعد حق. فحين تأكل الدولة حقوق موظفيها، وحين تنهب الدولة موارد شعبها، وحين تحتل ارضاً أو تترك أرضاً محتلة، حين تمنع تداول السلطة فيها، حين تلغي انتخابات أو تفرض قانوناً لا يوصل أصوات الناس ــــ هل نسينا ثورات «أين صوتي؟» – حين تصير عاجزة عن تقديم نموذج العدالة وصورة الإنصاف، تصير الدولة برمتها مولداً للعنف.
صحيح أن عنف الدولة، في شقه المادي، لا يبلغ وحشية العنف الفردي ولا الجماعي خصوصاً. لكن خطره هو الأكبر والأعظم. لأن المؤسسة الوحيدة في المجتمع البشري، المؤتمنة على سلام الإنسان، تصير عندها سبباً لتولد العنف في داخله.
في الأيام الماضية احتار كثيرون في توصيف دولتنا. هل هي دولة الزعران الذين رأيناهم يقتلون، أم دولة النفايات التي أغرقت البلد. لكل ما تقدم، قد يكون الصحيح أنها دولة العنف الأكثر بلطجةً ووسخاً.