IMLebanon

معوزون قبل “حرب الإسناد” وموجات النزوح: لا تنسونا

 

بين عبء النزوح واللا “أمان”

 

في الأول من تمّوز من كلّ عام، يُصار إلى تحديث تصنيفات البنك الدولي للبلدان بحسب مستوى الدخل الفردي. في الأرقام، في أرقام هذه السنة، انحدر اسم لبنان على اللائحة نزولاً ليصل معدّل دخل الفرد فيه إلى حدود 3000 دولار أميركي سنوياً. ماذا “على الأرض”؟ ماذا في الواقع؟ ما هو مستغربٌ ومقلق، أن هناك عائلات لبنانية تحيا بأقلّ من دولارٍ واحدٍ في اليوم. فهل من رسوم بيانية إنسانية لمثل هذه الحالات؟

 

 

 

قبل أن يكون “طوفان غزّة” و”حرب المساندة” وكلّ القهر والنزوح والدمار والفقر كان هناك “معوزون” جداً في لبنان. منسيين كانوا. وحصل ما حصل وبات الكلّ يتحدث عن مساعدات وحاجيات وعوَز. لكن، ماذا عن مَن كانوا فقراء في البلد قبل أن تكبر كرة ثلج الفقر؟ ماذا عن هؤلاء المعوزين المنسيين الذين هم بحاجة إلى من يسمع نداءهم: رجاءً، هل من يبالي بنا؟

 

 

 

زارت نداء الوطن “نادر” (اسم مستعار) في بيته القرويّ في يوم ممطر وبارد. كان جوّ الغرفة دافئاً ونظيفاً، فمخزون الحطب قد يكفي لشهر واحد أو أقلّ. بسمة مخنوقة ترتسم على شفتين خجولتين في وجه زوجته. أثاث المنزل يوحي بثراء قديم، أو بحبوحة أسقطتها الأزمات. لم يُرزقا بأولاد، فكلاهما يكافح من أجل الآخر.

 

 

كان “نادر”، صاحب الثمانية والخمسين عاماً، يعمل في توزيع المواد الغذائية، وكانت الحالة “مستورة”، بحسب قوله، لكن مع استفحال الأزمة في العام 2020 أقفلت الشركة، فتُركَ بلا عمل. وضعه الصحيّ لا يسمح له بمزاولة أعمال جسديّة قاسية. بحث كثيراً ولم يجد إلا وظيفة بدوامٍ جزئيٍّ يجني منها مليونين وخمسمئة ألف ليرة لبنانية شهرياً، ما يُعادل ثمانية وعشرين دولاراً أميركياً، أي أقلّ من دولارٍ واحدٍ في اليوم.

 

تقول زوجته “قبل اشتداد وتيرة الحرب في أيلول الماضي، وتسببها بموجة نزوح كبيرة، كانت تصلنا حصص غذائية شهرية ومبالغ مالية تصل إلى حدود الخمسين دولاراً من جمعيات، وأحياناً من أحزاب سياسيّة. كانت تعيننا في تأمين حاجاتنا اليومية. لاحقاً، اختلف الأمر كلياً، فخلال الشهرين الماضيين لم نحصل إلا على حصة غذائية واحدة وأربعين دولاراً.

 

نودعهما، ونتجه صعوداً إلى الشوف الأعلى، نزور “أنس”، ابن الثمانية والستين عاماً، في مستشفى عين وزين. ممدّد في غرفة مزدوجة الأسرّة، يعاني من مشاكلَ في القلب والضغط، وحالياً من التهاب في الرئتين. أُدخلَ في حالة طارئة على حساب وزارة الصحّة، لكنه يبحث عمّن يسدّد عنه النسبة التي لا تغطيها. ابنه مجنّد في الجيش اللبناني، وابنته ما زالت في المرحلة الثانوية، وضعه الصحي يمنعه من الإلتزام بأي عمل.

 

يقول “أنس” بكلماتٍ متعبة وبصوتٍ خافت “قبل الحرب كانت الأمور أيسر، كنا نحصل على ما يعيننا من الجمعيات، لكن، اختلف الوضع اليوم، لم نحصل على أية مساعدة منذ شهرين. والآن، لا أدري كيف أسدّد للمستشفى النسبة التي لا تتكفل بها الوزارة”. صمت قليلاً، كمن يحاول التقاط أنفاسه، وتابع: “أطلب من الأحزاب والجمعيات ألا تنسى الفقراء من غير النازحين، فأولئك لديهم جهات دوليّة تدعمهم، أما نحن فبتنا نشعر أننا متروكون”.

 

 

مبادرات للنازحين فقط

 

أنور زين الدين، أحد مؤسسي مشروع “دكانة الناس”، وهو مشروع تضامني اجتماعي (social enterprise)  يقول لـ “نداء الوطن” إنهم أطلقوا بالتعاون مع مجموعة من الشباب مبادرة لجمع المساعدات للنازحين، غالبية محتواها من الأصناف التي لا تحتويها “كراتين الإعاشة” الروتينيّة، كحفاضات الأطفال، والمستلزمات النسائية، وأدوية التعقيم وغيرها. حتى أنهم وزّعوا لفترة محدودة، نظراً للإمكانيات المادية، وجبات ساخنة على مراكز الإيواء” أضاف “قمنا بواجبنا تجاه النازحين الجدد لكننا لم نتخل عن المجتمع المحلي. أنشأنا صندوقاً خاصاً يغذّيه المتبرعون، وتعود أمواله لمساعدة العائلات الأكثر فقراً”.

 

“دكانة الناس”، ليست الوحيدة التي حوّلت جزءاً من إمكانياتها لمساعدة النازحين، ففي جبل لبنان تنشط العديد من الجمعيات والمبادرات الأهلية على خطّ مساعدتهم والوقوف إلى جانبهم في هذه المحنة الوطنيّة، كمؤسسة “الفرح الاجتماعية” التي فتحت مطابخها في الشوف وعاليه وبيروت وفي غيرها من المناطق للنازحين، كما جالت بعياداتٍ نقّالة على مراكز الإيواء. بالإضافة الى توزيع حصص غذائية بشكل دوريّ.

 

العدل بالمناصفة والإنصاف

“حتى لا تخلق هذه الحرب فجوة بين النازحين والمحتاجين من المجتمع المحلي، تم ّ الاتفاق بين أعضاء إتحاد جمعيات جبل لبنان على أن يكون توزيع الحاجيات مناصفة بنسبة 50% للنازحين الجدد والمعوزين في المجتمع المضيف. بالإضافة إلى تنظيم المساعدات واختيار التقديمات بعناية، حتى لا تقدّم السلعة الواحدة أكثر من مرّة ومن أكثر من جمعيّة”. هذا ما قاله لنداء الوطن مؤسّس اتحاد جمعيات جبل لبنان، ورئيس جمعية “LANA international” بهاء الزغيَّر. تابع “ربما كان التوزيع في بداية النزوح عشوائياً. لكن، مع مرور الوقت، تعمّق التنسيق بين الجمعيات أكثر، مما خلق حالة من الإطمئنان لدى المتبرّع والمتلقي. لكن مما لا شك فيه، أن الناس تأثروا مباشرة جراء النزوح، فمنهم من توقفت أعماله، خصوصاً في بعض القطاعات، كالبناء والسياحة والرياضة، فجفّت مداخيل من يعمل فيها. في المقابل، نشطت حركة الأسواق التجارية بشكل كبير، خصوصاً قطاع المواد الغذائية، حيث زادت مبيعات التجار فيه”.

 

“إن الأزمات المتتالية، في رأي الزغيّر، خلقت للجمعيات معاناة من نوع آخر، حيث ظهرت جمعيات كثيرة غير مرخّصة، راحت تنافس المرخصة منها في الحصول على التبرعات المحليّة، وقد اعتمدت القربى أو الصداقة مع المتبرع معياراً لجذب التبرعات. لكن لا أحد يدري أين تذهب الأموال التي تجنيها كونها لا تقدّم جردة محاسبة رسمية”.

 

 

 

يركّز الزغيّر على معايير أربعة يجب على الجمعيات اعتمادها “أولاً الدور الوطني في إظهار أن المحنة واحدة على جميع اللبنانيين، وبالتالي تكريس حسن ضيافة النازح بأرقى الطرق. ثانياً، اعتماد التوازن بين مساعدة النازح والمضيف، فالأخير بات يعاني أيضاً جراء الوضع الاقتصادي القائم وتوقف بعض الأعمال. ثالثاً، وقف التعاطي مع الجمعيات غير المرخصة كونها تستنزف التبرعات، بالإضافة إلى الشكوك حول تلك التي مهمتها الأساسية جمع “داتا السكان”. وأخيراً، إبعاد الجمعيات عن السياسة والدين والعمل تحت سقف “المواطنة”.

 

 

 

مؤشر الغلاء يحرق الفقراء

 

أصدرت وزارة الإقتصاد والتجارة، بالتزامن مع إطلاق مؤشر الأسعار الشهري، تقريراً يشير إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية لشهر تموز 2024، حيث بلغ 20% مقارنة مع الأسعار التي كانت معتمدة خلال شهر كانون الثاني 2023، و8,3% بالنسبة للفصل الأول من السنة الحالية. كل هذا حدا باللبنانيين، بكثير من اللبنانيين، إلى أن يصبحوا “على حافة الهاوية”.

 

تلك الهاوية، لم تردع المنتفعين زوراً من برنامج “أمان”، وبرنامج دعم الأسر الأكثر فقراً. في هذا الإطار قال بهاء الزغيَّر “ليست كل الأموال في البرنامجين تذهب للوجهة الصحيحة. كثرٌ يستفيدون دون وجه حقّ بسبب المحسوبيات، لكن في جميع الحالات، تلك التقديمات لا تكفي لسدّ أبسط حاجات الأسر”.

 

بين عبء النزوح، وشحّ التقديمات الدولية، والمحاصصة، وغياب خطة حكومية حقيقية للإنقاذ، هل سيتمكن اللبناني الفقير- والذي أفقرته دولتنا- من العيش بأقل ما يمكن من كرامة؟ وهل من يلتفت إليه في محنة اليوم الكبرى وكمّ النازحين الجدد؟