يأخذُ عليّ بعضُ الأصدقاء أنني أحمِلُ القلمَ كمثْلِ مَنْ يحملُ خنجراً أو مبضعَ جراَّح، فيقولون: لـمْ نقرأ لك مقالاً إلاّ كنتَ فيه ناقداً لاذعاً، وناقماً ساخطاً، كأنك لا تُحسِنُ إلاّ الهجاء.
قلتُ: وكأنكم تعيشون على سطح القمر، ومِنْ فوق تتقلّص مواكب المآسي ومشاهد البشاعات، وإلاّ.. فدلّوني على حالةٍ طبيعية واحدة في هذه الدولة… على شأنٍ واحدٍ وشيءٍ واحدٍ وأمـرٍ واحد، قابلٍ للحياة وصالحٍ للعيش البشري في هذه الدولة… دلّوني على واحدٍ من المسؤولين ليس من رُعـاةِ هذه المزرعة، حتى أنهالَ على أهـلِ السلطة وأهـلِ الحكم بالمدح والثناء والشكر، بكلِّ معاني النَـثْرِ والقصَّةِ والشعر.
ثـمَّ إنّ الذين يحملون القلمَ، إنْ راحوا يتنَّكرون لرسالته، ويخنقون صوته الصارخ في صحراء الصمت ليجعلوا منه مبخرةً، فحريٌّ بهم أن ينخرطوا في سلك الكهنوت، وإذ ذاك يصبح التسبيح والتبخير للربّ واجباً.
البلدُ: شاردٌ وطنياً، فاسدٌ خلقياً، عاهرٌ سياسياً، منقسمٌ حكومياً، منتَهَكٌ شعبيّاً، مفكّكٌ هيكلياً، متصادمٌ مذهبياً، متخلّفٌ تنموياً، منهارٌ إقتصادياً، مشوَّهٌ طبيعياً، فاقدُ الثقة دولياً، وتقولون: إمدحوا وبخِّـروا…
الوطنُ : أوطانٌ متضاربة، بين كلِّ وطـنٍ ووطـنٍ حدودٌ مرسومة بإشاراتِ الصليبِ والهلال، وداخلَ كلِّ وطـنٍ حدودُ صليبٍ وصليب، وحدودُ هلالٍ وهلال، وتقولون: إمدحوا …
الطبقة السياسية الحاكمة طبقةٌ فضائيةٌ، تلفّها سحاباتٌ من الغيوم السود، إنْقطعتْ عن إستغاثةِ الأرض وأنـينِ الأرواح النائحة، خطفتِ الدولةَ بما يُعرفُ بالعنف اللطيف، واغتصبتها باسم ديمقراطيةٍ مطَّـاطةٍ تتّسعُ لكل أنواع الفوضى والإنحراف والتكسّب والفحش والغـشّ، حتى الحُكْمُ الذي هو حكمُ الشعبِ بواسطة الشعبِ، أصبح حكمَ الحكمِ بواسطة الحُكم.
كلُّ ما هو عـامُّ في هذه الدولة تحوّل الى ملك خاص: الشأن العام، والمال العام، والمدير العام، والمدّعي العام، والأمن… آلافٌ من رجال الأمن أصبحوا في بيوت الزعماء، بلا إجازةِ عملٍ ولا إقامةٍ من الأمن العام.
الشأنُ العامُ الوحيد الذي يجمعُ اللبنانيين هو الموتُ العام، والوحدةُ بالموت.
السوادُ الأعظمُ من الناس بمرارةٍ يسألون: متى الخلاصُ وكيف…؟ والدولة مصادرةٌ، والحكمُ مصادَرٌ، ونصفُ الشعبِ مصادَرٌ والنصف الآخر مقموع، ولا مجال بعـدُ للقبول بأنصافِ المواقف وأنصافِ الحلول، فيما جبران يقول:»لا تقبل بالنصف فأنت لست نصف إنسان».
الذين يسألون عن الخلاص: لا خلاص في ظـلِّ هذا التناسل الوراثي مع كلِّ عاهاته البيولوجية والأخلاقية، فإذا تعذّر عليهم العصيان الثوري فلْيَكُنِ العصيانُ المدني، أو الثورةُ السلميةُ، تلك التي يسميها أستاذ العلوم السياسية الأميركي: «جين شارب» بالمقاومة المدنية والإنقلابات الناعمة..
وإلاّ… فانتظروا حتى تُبلى هذه الطبقة السياسية بالعُقْـمِ الجنسي فيتوقف التوريث، ويكون الخلاص لكم وللبنان.