Site icon IMLebanon

هل تعود الحياة اليوم إلى “شارل حلو”؟

 

أوساخ وشلال مياه وإهمال وصوت “القباقيب”… بالبال

 

هناك، تحت، في جوار مرفأ بيروت، قرب البحر، تنبسط محطة التسفير على جادة شارل حلو التي تقرر في “هندسات النقل” و”فبركات الأخوّة” أن تكون اللؤلؤة بين لبنان والجوار، لكن ليس كل مصير يتشكل في لحظة القرار، خصوصاً إذا كان القرار مبنياً على المزاج! فماذا في “أمزجة” من في أيديهم قرار موت أو حياة المحطة التي تُشكّل حبل سرة آخر بين لبنان وسوريا؟

 

عبور الحبل المجدول الفاصل نحو المحطة ممنوع بأمرٍ من بلدية بيروت. والإذن يُعطى من المحافظ الجديد القاضي مروان عبود مذيلاً بطابع بريدي. شباب البلدية يحرسون المحطة بقبضة من حديد. ثلاثة أو أربعة باصات تبدو منسية وسائقان يجلسان في انتظار فرج ما. محمد عواد وعز الدين الحاج أحمد ركنا الباصين اللذين يعملان عليهما خارج المحطة وتربّعا على المقعد الحجري فيها، في انتظار ركاب يقلانهم صوب طرابلس. أبعد رحلة من محطة شارل حلو تتجه حالياً نحو طرابلس. لكن، إبتداء من اليوم، في الثاني من تموز، قد تعود الحركة وفي الحركة بركة.

 

المحطة المؤلّفة من ثلاث طبقات، المنبسطة على أحد أغلى العقارات في بيروت، مهملة جداً. والروائح النتنة تفوح في الأرجاء. نسدّ أنوفنا ونقتحم عرين المغارة – المحطة. هي انطلقت في أواخر تسعينات القرن الماضي. كانت بمثابة حلم من الأحلام الكثيرة بإنشاء شركات حيوية في لبنان لكنها وقعت، كما سواها، في مطبات “الأمزجة” والمستجدات والتطورات والمحسوبيات والإهمال والفساد والمرّ.

 

تشجيعاً لليرتين

 

الرحلات بين بيروت وطرابلس، المنطلقة اليوم من جنبات محطة شارل حلو للباصات، قليلة جداً. رحلتان لشركة إكسبرس عند الساعة الثانية بعد الظهر وبعدها بساعة ونصف في تمام الثالثة والنصف. وتقوم شركة كونكشين برحلتين عند الثانية والنصف بعد الظهر وبعدها بساعتين في تمام الرابعة والنصف. رحلات تتمّ براكبين غالباً. كل شيء في البلد يتراجع. كل شيء يكاد يُصبح في خبر كان. لكن، ثمة ذبذبات هناك من يعتبرها إيجابية: المحطة ستُعاود عملها ويُسمع من جديد صدى طقطقات قباقيب غوار الطوشي فيها. ثمة إجتماع يعقد اليوم في محطة التسفير يضم أصحاب شركات النقل اللبنانيين والسوريين، للإتفاق على الأسعار الجديدة وكل التفاصيل لمرحلة ما بعد كورونا (على الأقل في جولتها الأولى). مسؤول شركة الرافدين السوري أحمد الشيخ يصل اليوم الى بيروت لمعاينة كل التفاصيل ميدانياً ويقول: القرار الذي سنتخذه سيكون تشجيع الليرتين السورية واللبنانية وسنجري حسومات للعوائل. و… وبينما يتكلم تلقى خبراً جديداً: تمّ تثبيت قرار فتح معبر المصنع الحدودي إبتداء من 2 تموز بين لبنان وسوريا، وحدّدت تعرفة المرور من سوريا الى لبنان بقيمة 5000 ليرة سورية عن الراكب الواحد و25 ألف ليرة سورية عن السيارة كاملة. واستطرد: أرجح تحديد تسعيرة سفر الراكب من بيروت الى القامشلي في البولمان بمئتين وخمسين ألف ليرة. التسعيرة عالية قليلاً لأنه يحمل عادة أمتعة كثيرة. قد ينقل معه غسالة على سبيل المثال. ونتوقع أن تجري شركتنا رحلة أو اثنتين يومياً لأن عدد من يريدون أن يحجزوا سفرهم هائل”. في أي اتجاه؟ يجيب: “من لبنان الى سوريا”. طمأننا أحمد.

 

 

قلب السوريين على لبنان وقلب لبنان مثل الحجر. من يسمع هؤلاء يتكلمون عن خوفهم على لبنان، وعن الأموال السورية التي كانت تساعد في إنعاش الإقتصاد اللبناني، كما فعلت سوريا في مصر، وبأن لبنان سيموت بلا السوريين، يشعر وكأننا أمام سياسي (أو زعيم) لبناني محسوب على سوريا.

 

نتابع جولتنا في المحطة قبل أن تعود إليها “الروح”. صبيان يلعبون على دراجاتهم الهوائية. والنفايات في كل مكان. كراتين وعلب دخان ماركة 1970 وسيدرز، أكواب قهوة وشاي وجرذان ميتة، قناني مياه بلاستيكية في كل مكان. أعمدة ملطخة بالأوساخ وإنارة خفيفة هي كل ما تبقى منذ إطلاق المحطة العام 1997. أدراج مكسرة. كافيتريا المحطة أقفلت أبوابها في آذار الماضي وغادر العاملون فيها. حقائب مكومة نسيها أصحابها، ومدخل صالة الإنتظار وكأنه مدخل قبرٍ منسي. وكتابات وخربشات على الجدران. وأسقف بان حديدها ويخالها من ينظر إليها وكأنها آيلة الى السقوط. وشلالات مياه تنزل من الأوتوستراد الفوقاني الى المحطة المتمددة تحته منذرة بأخطار داهمة. لماذا كل هذا الإهمال؟ لماذا لم يتم استخدام سوى جزء بسيط من المحطة وتُركت لأمرِها بدل أن تتحول الى مواقف عامة؟ لماذا سرقت الدولة مال الناس، عبر المصارف، وتترك الأملاك العامة بلا حياة؟ لماذا لا تستفيد منها بدل أن ترتدّ على “المعترين”؟

 

فلنراجع بلدية بيروت في الموضوع علّنا نحصل من دوائرها المعنية على جواب. يُشدد مصدر فيها على أن العين بصيرة واليد قصيرة ولذلك ألف سبب وسبب. فالبلدية سبق وطالبت بإجراء الإصلاحات وأتى الجواب أن المحطة ضمن الأملاك العامة لأنها تقع تحت الجسر، والجسر من صلاحية مجلس الإنماء والإعمار. أعلمته بوجوب أن يفعل ذلك وبسرعة لأن المياه تنزل بغزارة لكنه لم يفعل. وكان قد صدر قرار العام 2007 من مجلس الوزراء سمح لبلدية بيروت بتأجير المحطة كل ثلاثة أشهر الى حين تلزيمها. والتلزيم لم يحصل حتى الآن. ولا أحد يدفع الإيجارات الواجبة في المحطة منذ العام 2014 على الرغم من صدور أوامر التحصيل. مع العلم أنه جرى اقتراح العام 2011 بتخفيض الأجور بسبب غلاء الأسعار وعملت بلدية بيروت على تخفيضها بنسبة 10 في المئة ولم يدفعوا. وهناك من يطالب بتطبيق حصرية النقل الخارجي بمحطة شارل حلو وهو ما يفترض أن تبت به الدولة. أما البلدية فبين شاقوفين. صحيح هي مسؤولة عن أمور لكن هناك أموراً أخرى مسؤول عنها آخرون.

 

من يسمع البلدية تتحدث يتذكر المثل القائل “جبنا الأقرع تيونّسنا كشّف عالقرعة وخوّفنا”! فلا يحق للناس التذمر لأن المسؤولين يتذمرون أكثر.

 

نجول مجدداً في المحطة. ثمة سائق يمسح الباص بفرح هائل. هو فرحٌ بعودة العمل الليلة. ثمة سبعة باصات (كل واحد يتسع لـ48 راكباً) تعود الى شركة سعد للنقليات، ستنتقل الى مطار بيروت الدولي لاستقبال عناصر من “اليونيفيل” ونقلهم الى الجنوب. ويقول: عقمنا الباصات وأعلمونا أنهم سيقومون مجدداً بتعقيمها قبل صعود العناصر إليها بساعتين.

 

شركة باصات نور الإيمان حددت أسعارها: مئة دولار من بيروت الى القامشلي. “يا ميسّر يا رب”، عبارة ردّدها سائقون. وكم من السائقين اللبنانيين يردّدون وهم يجولون في تلك البقعة الجغرافية “موقف للسيارات يا رب”. وكل هذا على مسمع من استلموا إدارة تلك المحطة الجميلة من الخارج، الراكنة في مكان حيوي، في جوار يعاني من ندرة مواقف السيارات وكثرة “المواقف” البيانية التي تتقاذف مسؤولية كل خطأ!

 

غريبةٌ هي الأمور في لبنان. غريبٌ هو مسار أمور كثيرة كثيرة في لبنان. فالكل يشكو الكل. والكل ينتظر العمل من الكلّ. لكن ما يحدث اليوم يوجب عدم المماطلة في المطلق في أي قرار. فاللبناني جائع، والمحطة التي ستعود لتعمل لديها زبائنها لكن يفترض بالبلدية ومجلس الإنماء والإعمار ووزارة النقل أن تلتفت إليها أكثر لأنها، على مدار أكثر من عقدين، أهدرت المال الكثير بإبقاء تشغيل هكذا محطة بنسبة دون الـ 10 في المئة من إمكاناتها. وحتى هذه النسبة، العشرة في المئة، متروكة لأمرِها. فالإيجارات، على ذمة بلدية بيروت، لا تُسدد. في المقابل يقول مستأجر سابق أن البلدية كانت تتقاضى منه، لقاء إيجار كافيتريا ثلاثة أمتار عرض بثلاثة أمتار طول، 2000 دولار شهرياً.

 

كل ما في المحطة لا يعمل في شكل سوي، وكل مَن مِن واجبه الإهتمام في تأهيل وصيانة ومتابعة العمل في المحطة، يتذرع بإهمال سواه. هذه حالنا ومن زمان. يبقى أن الحياة تعود الى المحطة لكن في زمن باتت فيه الليرة اللبنانية والليرة السورية “تحت الأرض”، وبات يُحسب للمواصلات ألف حساب. كما بات النظر الى السفر الى ما بعد بعد سوريا مُحال. فلنرحب ببداية تموز وبعودة آلاف السوريين الى بلادهم “لأن الحياة في لبنان ما عادت تطاق”!