IMLebanon

… لكن هل يفعلها بوتين؟

لم تأت تصريحات رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف التي حذر فيها من «اندلاع حرب عالمية ثالثة في حال تدخل قوات أجنبية في الحرب بسورية»، معزولةً عن مجموعة تحذيرات وتهديدات صدرت عن روسيا في سياق تدخلها العسكري هناك. فقد سبق لمسؤولين روس أن أكدوا استعدادهم لاستعمال كل أنواع الأسلحة بما فيها النووية لأجل التوصل إلى تحقيق أهدافهم في سورية.

طبعاً الأهداف الروسية في سورية تتصاعد كلما تقدم المسار العسكري للنظام وحلفائه، وبعدما شارف على محاصرة مدينة حلب ارتفعت آمال بوتين في انتزاع تنازل كبير من المعارضة يُبقي الأسد على رأس الجمهورية السورية ويفرض قيام حكومة مُطعّمة ببعض المعارضين، وبالتالي فهذا الأمر يضمن حيازته كل سورية تاركاً للمملكة العربية السعودية أن تفرض حلّها في اليمن ظناً بأن ذلك يكفي للحفاظ على مداها في الأمن القومي.

التدخل العربي والتركي في هذه اللحظة، حتى لو أتى في إطار التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، قد يُنهي التفرّد الروسي بالساحة السورية ويُعيدها إلى مربع الأعمال العسكرية التي تفشل في تحقيق نصر سياسي، وهذا ما تعجز عن هضمه روسيا بعد تفاقم الأوضاع الاقتصادية الداخلية وظهور التوتر مع الأطلسي في أوروبا. وفي إطار تنامي مشروعها الشامل في المنطقة، أخذت روسيا تتطلع نحو مد نفوذها إلى العراق ولبنان وهذا كله من مستلزمات التحكم أو المشاركة في صياغة الجغرافيا العربية المطروحة على تعديلات جوهرية، فيما لو نجح المشروع. وكل ذلك يتطلب إبقاء الآلة العسكرية الروسية طليقــة اليــدين في التهجير المُمنهج للسوريين واستخدام الأكراد لإضعاف الموقف التركي والسيطرة على قرار الأقليات.

لقد لاحت علامات النصر لروسيا في سورية، وهذا ما كان يجب ألا يحصل، لأنه يرفع كلفة تبديد الآمال الروسية فيما لو تدخلت المملكة العربية السعودية وتركيا لإعادة التوازن للمعارضة المسلحة، أو فيما إذا دعمتها بأسلحة نوعية، بخاصة أن لبوتين رغبة في استثمار معركة حلب في الداخل الروسي وفي الجمهوريات المحاذية لها. فلمدينة حلب رمزية تتعلق بالصراع مع تركيا والعرب ويمكن أن تشكل نموذجاً لأي مدينة أو دولة تتمرد على روسيا في المستقبل.

حاجة بوتين لمعركة حلب، احتلالاً أو تأديباً، تشكل أساساً معنوياً في نظرته للاستفادة من الحرب الدائرة في سورية. والواضح لحد الآن أن السياق العسكري الروسي يسير في شكل مستقل عن السياق الديبلوماسي ولا يكترث للطلبات الغربية أو العربية التي تدعوه إلى التوقف عن قصف المدنيين، وهذا ما أفشل اجتماعات جنيف 3، وبالتالي فالرهان على تغيير في الاستراتيجية الروسية نتيجة للضغوط السياسية أمر ليس في مكانه.

كذلك بالنسبة للرهان على ما يردع الرئيس بوتين من الانجرار إلى توسع الحرب الدائرة في سورية أو إلى «حرب عالمية ثالثة» كما وصفها مدفيديف فيما لو حصل تدخل بري خارجي، فهذا الأمر أيضاً ليس في مكانه. فبوتين الذي يحمل إرثاً كبيراً من الصراع مع الغرب يقود شعبه في روسيا إلى «صحوة قومية» تهدف إلى استعادة المكانة المعهودة لروسيا في العالم، وهو يسير بخطى ثابتة نحو التوسع والتمدد باتجاه أوروبا والشرق الأوسط، ولقد تصاعدت أهدافه تدريجياً من رفض الأحادية القطبية، إلى استعادة أجواء الحرب الباردة، وصولاً إلى الحديث عن حرب شاملة. وقد تم تخطي كل واحدة من هذه المحطات بسرعة فائقة.

طبعاً هذا المنحى في التوجهات الخارجية يتزامن مع منحى داخلي أصبحت روسيا رهناً له، وهو الذي يكرس النفوذ الشخصي لبوتين مبتعداً عن الأطر العامة والتشاركية في إدارة النظام السياسي الذي يفتقد إلى ديموقراطية المؤسسات وسلطة الرأي العام، وبالتالي كل ذلك يُسهّل على بوتين الذهاب في الخيارات الخارجية إلى حيث تصبح كل الأمور ممكنة.

حجم المخاطر التي يحملها التدخل التركي أو العربي على مشروع روسيا يرقى إلى مرتبة تهديد المصالح القومية، فوجودها في سورية يرتبط باتفاقية مبرمة مع نظام الأسد وقد تجد مبرراً للدفاع عن الأراضي السورية بمواجهة أي «عدوان» خارجي، هذا السيناريو ليس افتراضياً ويمكن لبوتين اعتماده في إطار انقياده إلى مزيد من التورّط في الساحة السورية.

أضف إلى أن روسيا بدأت تراهن على إمساكها بالوضع السوري كله وهي لا تتشارك الميدان إلّا مع مَن يشاطرها الأهداف في حماية الأسد وضرب المعارضة، والقادة الروس يعيشون حالة «هيجان عسكريتاري» رأينا نسخة منه عند إسقاط طائرة السوخوي. لكل ذلك، فإن تلويح مدفيديف بالحرب الشاملة لا بد أن يؤخذ على محمل الجد، لكن في الوقت ذاته لا يجب الخوف منه لأن الحاجة إلى تدخل عربي مباشر في سورية اليوم تشكل عاملاً حاسماً في إعادة التوازن، والأهم من ذلك أن عليه يتوقف مستقبل الحل في سورية، إذ لا يجوز أن يحضر الكل إلى سوق «المناقصات» المباشرة في شمال سورية ويغيب العرب عن ذلك.

بوتين قد يفعلها من دون أن يردعه رادع، والخطاب المرتفع للدعاية الروسية جزء لا يتجزأ من الحملة المتصاعدة في المنطقة ودليل واضح على أن بوتين بدأ يتطلّع إلى ما بعد سورية!