يصعب على المرء الاقتناع بانّ ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه لولاية رئاسية خامسة قرار منطقي ونهائي اتخذه الرجل، علما انّه في وضع صحّي لا يسمح له بالكلام… إضافة الى انّه مقعد. على الرغم من ذلك، لا مفرّ من التعاطي مع الوضع الجزائري من منطلق واقعي. ثمّة واقع لا يمكن تجاهله يتمثّل في ان هذا البلد المهمّ يمرّ في ازمة عميقة بات معروفا تماما كيف بدأت وليس معروفا كيف ستنتهي. يمكن اختزال الوضع الجزائري بالقول ان ترشيح بوتفليقة ليس سوى ترحيل موقت للازمة وبحث عن شراء للوقت.
أظهرت التجارب التي مرّت فيها دولة مثل الجزائر، المليئة بالكفاءات، ان شراء الوقت لا يحلّ أي ازمة من ايّ نوع عندما يتعلّق الامر بالبحث عن مستقبل افضل وتفادي انفجار كبير. يمكن لشراء الوقت حلّ ازمة ذات طابع عاطفي بين رجل وامرأة. لكن الامر يصبح مختلفا كلّيا عندما يتعلّق بمستقبل بلد يرفض المعنيون بمصيره الاعتراف باخطاء الماضي التي أوصلت الجزائر الى ما وصلت اليه، أي الى ترشيح بوتفليقة نفسه لولاية خامسة بعد فقدانه القدرة على النطق والتحرك على رجليه.
الأكيد ان الرئيس الجزائري نفسه لا يمكن، لو كان واعيا، القبول بذلك. لكنّ الواضح انّ لا خيار آخر امامه سوى الرضوخ لما يقرّره افراد الحلقة الضيّقة المحيطة به. لم يجد افراد هذه الحلقة البديل الذي يضمن لهم سلامتهم في مرحلة ما بعد نهاية الولاية الرابعة. هؤلاء يعرفون، في غياب القدرة على المجيء بسعيد بوتفليقة، الاخر الأصغر للرئيس الجزائري، الى قصر المرادية، ان باب الملاحقة القضائية سيكون مفتوحا حتّى لو كان ذلك عن غير وجه حقّ. فتاريخ الجزائر مليء بهذا النوع من الملاحقات. الدليل على ذلك ما تعرّض له بوتفليقة نفسه عندما اعترض على اختيار الشاذلي بن جديد خليفة لهواري بومدين في حين كان يعتبر نفسه المؤهل ليكون في موقع الرئيس بصفة كونه احد اقرب الناس الى بومدين، إضافة الى شغله موقع وزير الخارجية طوال عهده.
ليست ازمة الجزائر وليدة اليوم. بدأت هذه الازمة منذ استقلت الجزائر في العام 1962 ووصول احمد بن بلّة الى رئاسة الجمهورية ثم الانقلاب العسكري الذي نفّذه الرجل القوي هواري بومدين في العام 1965 وصولا الى فرض الجيش العقيد الشاذلي بن جديد خليفة له مطلع العام 1979 واللجوء الى بوتفليقة في 1999 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد «العشرية السوداء».
كان اللجوء الى بوتفليقة في أواخر 1998 تمهيدا لانتخابه رئيسا في 1999 بمثابة تعويض من المؤسسة العسكرية عن الخطأ الذي ارتكبته في بداية 1979. لكن ذلك لم يمنع، وقتذاك، الرئيس الجديد الذي استطاع تحقيق مصالحة وطنية بعد حرب اهلية استمرّت عشر سنوات من الانتقام.
هناك الآن معطيات جديدة في الجزائر. تقوم هذه المعطيات على توازن جديد يستند الى تمكن بوتفليقة والحلقة الضيقة حوله من تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية لمصلحة قوى أخرى. استطاعت هذه القوى التكتل خلف رجل مقعد واستخدامه غطاء لعجزها عن تأمين انطلاقة جديدة للبلد وتجاوز كلّ العقد التي ولدت مع الاستقلال.
الازمة الحالية سوى امتداد لما بدأ في مرحلة ما بعد الاستقلال بمجيء سياسي لا علاقة له بالسياسة اسمه احمد بن بلة رئيسا للجمهورية. مهّد ذلك للانقلاب العسكري الذي نفّذه هواري بومدين الذي كان رجلا نزيها يمتلك اوهاما كبيرة صنعتها واردات النفط والغاز وليس شيئا آخر.
كان الفشل ملازما لكل ما اقدم عليه بومدين الذي انشأ صناعة ثقيلة من دون ان يسأل نفسه من سيشتري ما تنتجه المصانع الجزائرية. كان ايضا وراء «الثورة الزراعية» التي عادت بالكوارث على الجزائر. وكان وراء عملية التعريب التي أسست لجيل جزائري شبه امّي. نسي هذا الجيل الفرنسية ولم يتعلّم العربية عن طريق أساتذة ينتمون الى البعث العراقي او البعث السوري… او من بقايا الاخوان المسلمين في مصر وسوريا وغيرهما…
اسست الثقافة التي زرعها بومدين للانفجار الشعبي الذي حصل في تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 1988 في عهد الشاذلي بن جديد. تحوّل هذا الانفجار الضخم الى حرب اهليّة تخللها منع الإسلاميين من الاستيلاء على البلد بعد اكتساحهم الانتخابات البلدية مطلع تسعينات القرن الماضي ثم شنّ الجيش حملته التي شملت ابعاد الشاذلي بن جديد عن الرئاسة والسعي الى «استئصال الإرهاب» و»حماية الجمهورية».
في بلد لا ينقصه الرجال ولا الكفاءات ولا الديبلوماسيين اللامعين، يعطي ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة فكرة عن مدى عمق الازمة الجزائرية التي لا يمكن ان تعالج بشراء الوقت. تكمن مشكلة الجزائر في غياب من يسأل كيف يمكن لبلد يمتلك كلّ هذه الثروات البقاء في اسر النفط والغاز؟ لماذا كلّ هذا التدهور على كل صعيد لمجتمع كان مفترضا ان يكون بين اكثر المجتمعات تقدّما في المنطقة؟ هل هي ازمة برامج تعليمية وفساد على كل المستويات واجيال شابة لا تجد فرص عمل ومساكن؟ هل هو تعميم للجهل عبر شعارات ليست سوى أوهام عن دور إقليمي، بل عالمي، للجزائر التي لا تمتلك نموذجا في ايّ مجال من المجالات تقدّمه لمحيطها او لايّ دولة افريقية، بما في ذلك تلك الدول المتحالفة معها والتي تستخدم في تنفيذ سياسات لا طائل منها…
هناك حال جمود في الجزائر منذ تعرّض بوتفليقة لجلطة في الدماغ في العام 2013. الخوف كلّ الخوف ان يذهب البلد كلّه ضحيّة الجمود. الخوف كلّ الخوف ان ينعكس هذا الجمود على كلّ القرارات الجزائرية في الداخل او الخارج وان يمنع المسؤولين الفعليين عن البلد من التفكير بضرورة كسر تلك الحلقة المقفلة التي يدور فيها البلد منذ الاستقلال.
بكلام أوضح، هناك حاجة الى مخرج بدل البقاء في اسر عقد الماضي التي يظلّ افضل تعبير عنها تلك القضية المفتعلة التي اسمها قضية الصحراء الغربية التي اسمها الصحراء المغربية. هذه القضية بين المغرب والجزائر وكان الهدف منها في كلّ وقت حصول الجزائر على ممرّ تحت سيادتها الى المحيط الأطلسي عبر التراب الوطني المغربي. كلّ كلام غير ذلك، من نوع «حق تقرير المصير للصحراويين»، تحايل على الواقع وكذبة كبيرة تعني، اوّل ما تعنيه، تكريسا للجمود الذي أوصل جزائر الى ما وصلت اليه.
ان يحصل عبد العزيز بوتفليقة على ولاية خامسة او لا. ليست تلك المسألة. المسألة هل من امل باختراق يتحقق داخليا او خارجيا يشير الى رغبة حقيقية في التغيير، او تستمر الحلقة الضيّقة المحيطة ببوتفليقة في ممارسة لعبة شراء الوقت… وصولا الى يوم يكون فيه انفجار كبير، انفجار اكبر من ذلك الذي حصل في خريف العام 1988.