Site icon IMLebanon

إنتخابات فرعية في جمهورية «لالا لاند»

 

إنقلبت السلطة فجأة، من موقف المتجاهل للانتخابات النيابية الفرعية، على مدى 6 أشهر، إلى موقف المستعجل. الذين هم «على نِيّاتهم» يقولون: «حسناً. على الأقل سيلتزمون الدستور هذه المرّة». لكن العارفين بالخفايا يطرحون كثيراً من الشكوك. فهذه السلطة بارعة في «التركيبات».

 

منذ آب الفائت، كان أركان السلطة يقفلون آذانهم عن كل حديث يتعلق بالانتخابات الفرعية. وضمناً، كانوا يريدون إبقاء الملف على الرفّ ليعرفوا أين ستكون مصالحهم: بإجرائها أو تعطيلها؟

 

هل ستناسبهم الظروف ليربحوا مقاعد النواب الـ8 الذين استقالوا بعد انفجار المرفأ (مروان حمادة، هنري حلو، سامي الجميِّل، نديم الجميِّل، الياس حنكش، ميشال معوّض، نعمة افرام، وبولا يعقوبيان)، ومقعدَي النائبين الراحلين الرئيس ميشال المرّ وجان عبيد، أم الأفضل لهم أن «يناموا» على الملف حتى يصل البلد إلى مسافة 6 أشهر من موعد الانتخابات العامة، في ربيع 2022. عندئذٍ يقولون: قانون الانتخاب لم يعد يسمح بإجراء انتخابات فرعية؟

 

في أي حال، ولأنّ المادة 43 من القانون تقضي بإجراء الانتخابات الفرعية خلال شهرين، ومن باب رفع المسؤولية، وقَّع وزير الداخلية محمد فهمي مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وأحاله إلى مجلس الوزراء في آب، على أن تُجرى الانتخابات قبل 13 تشرين الأول.

 

ولكن، في 2 أيلول، أصدرت هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل توصيتها القانونية في المسألة، وارتأت تأجيل الانتخابات الفرعية لأسباب عدّة. وبناء على ذلك، تبنَّت الحكومة التأجيل. والحجج هي الآتية:

1- الخطر الذي يشكِّله انتشار جائحة «كورونا»، والإقفال العام المفروض لهذا السبب، تجنّباً لحصول تخالط اجتماعي يفاقم الأزمة.

2- كان انفجار المرفأ قد جعل من بيروت- جزئياً- منطقة منكوبة، حيث تضرَّر معظم المدارس هناك وبات متعذِّراً اعتمادها كأقلام اقتراع.

3- كانت بيروت في وضعية الطوارئ بعد الانفجار، وتمّ التحوُّط لاحتمال أن تضطر القوى العسكرية والأمنية إلى منع التجوُّل فيها خلال اليوم المحدَّد للانتخابات، ما يعطِّلها. وبما أنّ المادة 41 من القانون تفرض إجراء الانتخابات خلال يوم واحد، في كل الدوائر الانتخابية، فمن البديهي أن تؤجَّل في الدوائر الأخرى أيضاً.

 

آنذاك، ارتكزت هيئة التشريع في توصيتها بالتأجيل إلى المنطق الحقوقي المجرَّد، من دون غايات سياسية. لكن أركان السلطة لم يلتزموا به بناء على المنطق إيّاه، بل من زاوية مصالحهم. فهذه السلطة ضربت دائماً عرض الحائط توصيات الهيئة… إلّا عندما كانت تلائمها.

 

في صيف 2020 وخريفه، كانت مصلحة أركان السلطة أن يجمِّدوا كل شيء ليعرفوا إلى أين ستصل الضغوط والعقوبات الأميركية. وكان الرهان محلياً وإقليمياً على التغيير في واشنطن: يبقى دونالد ترامب أو يأتي جو بايدن، وما انعكاس ذلك على إيران و»حزب الله»، وتالياً تركيبة السلطة؟

 

لذلك، وُضِع ملف الانتخابات الفرعية جانباً، كجزء من الخطة الشاملة لتجميد كل الخيارات والاستحقاقات السياسية: لا حكومة جديدة، لا حسمَ لنهج التعاطي مع صندوق النقد الدولي، لا حسمَ لمفاوضات الناقورة…

 

ولكن، فجأة، ومع أولى إشارات التغيير في مناخ العلاقات بين واشنطن وطهران، قرّرت قوى السلطة أن تضرب عرض الحائط كل المبرِّرات المنطقية وتسحب ملف الانتخابات الفرعية من الأدراج، وأن تستفيد سريعاً من فرصة ملائمة لإجرائها والتحكّم بنتائجها. ويتردّد أن هناك رغبة في أن يتمّ ذلك أواخر آذار، أي في غضون شهر من اليوم.

 

هذه الاستفاقة يعتبر البعض إنّها تدعو فعلاً إلى الارتياب. فالأسباب المشروعة التي دفعت إلى التأجيل قبل 6 أشهر، ما زالت قائمة بمعظمها، بل ازدادت تفاقماً بأضعاف، ونشأت مبرِّرات أخرى لا يمكن تجاهلها.

 

في الدرجة الأولى، بأي منطق جرى تبرير تأجيل الانتخابات الفرعية في مطلع أيلول الفائت، عندما كانت الإصابات اليومية بفيروس «كورونا» بضع مئات والوفيات دون الـ10 يومياً، فيما هناك اليوم اتجاه إلى إجرائها على رغم الأرقام المضاعفة، وبعدما وصلت الإصابات إلى ذروة الـ6 آلاف والوفيات إلى 85 يومياً؟

 

كيف لبلدٍ تتشدّد فيه القوى العسكرية والأجهزة في تطبيق التعبئة والإقفال، وتنظِّم المحاضر بمَن يخرج إلى الشارع بغير الضرورة، أن يجري انتخابات نيابية فرعية، وفي عدد كبير نسبياً من الدوائر، بحيث يمكن تشبيه هذه الانتخابات بأنّها «نِصْفُ انتخابات عامة»؟

 

وفي الموعد الذي يُحكى عنه، نهايات آذار، ستكون إجراءات الإقفال ما زالت قائمة أو في نهاياتها بأحسن الحالات. وستأتي الانتخابات الفرعية لتهدّد بانتكاسة صحية جديدة، لأنّها ستسبّب خرق الإجراءات على مدى أسابيع، ثم ازدحاماً غير محسوب العواقب يوم العملية الانتخابية، من طرابلس وزغرتا وصولاً إلى بيروت مروراً بكسروان والمتن والشوف وعاليه.

 

والسؤال الأهم، كيف سيتمكن الناخبون من التعرّف إلى المرشحين والاستماع إلى برامجهم فيما هم محجورون وممنوعون من التجمّع، وبقرار من الحكومة نفسها؟ وفي الموازاة، كيف للمرشحين، ولا سيما منهم الذين هم من خارج السلطة، أن ينظّموا حملاتهم في ظلّ هذه التدابير؟

 

وهل سيكون مضموناً معيار العدالة بين الناخبين، بين مَن «يغامر» صحياً بالحضور إلى أقلام الاقتراع وبالتعرّض لمخاطر العدوى، ومَن لا «يغامر»؟ والسؤال نفسه مطروح على المرشحين وماكيناتهم الانتخابية والجولات المطلوبة منهم قبل العملية الانتخابية وخلالها.

 

وأما الرهان على اللقاح لتوفير ضمانات صحّية، فليس في محلِّه إطلاقاً. فأعداد المواطنين الذين تلقّوا الجرعة الأولى من اللقاح حتى اليوم ضئيلة جداً، وستبقى دون حدود الـ3 أو 4 % من السكان، ومن كل المناطق والجنسيات، خلال الأسابيع المقبلة.

 

فأي ضمان إذاً سيقدّمه اللقاح للمواطنين في الدوائر المعنية؟ وهل تتحمَّل الدولة مسؤوليتها عن حصول تخالطٍ اجتماعي خَطِر يعيد عقارب «الكورونا» إلى الوراء، كما سبق وأدّى تراخيها خلال أعياد نهاية السنة إلى كارثة صحية مريعة؟

 

وكيف استنسبت الدولة أنّ إجراء الانتخابات الفرعية أصبح ممكناً في ظل «كورونا» أكثر من فتح المدارس والجامعات؟ وكيف يمكن إجراء انتخابات طبيعية في بلدٍ يموت فيه الناس على أبواب المستشفيات؟ وهل تَبلَّغ المعنيون «نقزة» القطاع الطبي المرهق وهواجسه من احتمال إجراء الانتخابات الفرعية في هذه الظروف؟

 

وفي موازاة المأزق الصحي، هناك مشكلة مشروعة تتعلق بالمِهَل والظروف واستعدادات المرشحين والناخبين. فقوى السلطة ماكيناتها جاهزة ومجيَّشة سياسياً وطائفياً ومذهبياً، ومدعّمة بكل ما يلزم من مال وسوى ذلك، فيما المستقلون والمعارضة والمجتمع المدني يحتاجون على الأقل إلى فترة تحضير منطقية.

 

وعلى الأرجح، هذه الثغرة هي التي ستستغلها السلطة بدعوتها إلى الانتخابات سريعاً، أي قبل 30 يوماً من اليوم المحدَّد للعملية الانتخابية، عملاً بمنطوق المادة 43- أو أكثر بقليل- بحيث يكون الموعد كافياً لجماعاتها وضاغطاً على الآخرين.

 

كل ذلك، ولا أحد يتحدّث عن مأزق تمويل انتخابات فرعية، على مسافة 14 شهراً من انتخابات عامة يُقال إنّ النافذين يفكِّرون أساساً في تطييرها وبرمجتها على الانتخابات الرئاسية واستحقاقات أخرى.

 

تُقدَّر أكلاف الانتخابات الفرعية بنحو 3 مليارات ليرة. فهل أصبح ثمن صوتُ المواطن في صناديق مرشحي السلطة أغلى من رغيف الخبز وحبّة الدواء وسرير المستشفى وقسط المدرسة والجامعة وصفيحة البنزين التي تحلِّق أسعارها، بطريقة خبيثة، تمهيداً لرفع الدعم، فيما الدولار يتوثّب لـ»الطيران»؟

 

وكيف تتوافر أموال الانتخابات الفرعية فيما المساعدات الزهيدة للعائلات الفقيرة الجائعة مفقودة أو منهوبة؟ ألهذه الدرجة صار ممكناً استغباء المواطن؟

 

طبعاً، لتغطية قرارها، قد تتلطّى السلطة بعنوان احترام الدستور. ولكن الدستور نفسه ينصّ على الضرورات القاهرة أيضاً، وهي موجودة. فإذا تمّ تجاوزها سيكون مشروعاً الطعن بالانتخابات. وللمناسبة، أركان السلطة هم أنفسهم «يمسحون الأرض» بالدستور والقوانين في كل شيء.

 

فهذه السلطة الحريصة على الدستور، هي نفسها التي ترعى التحقيق أو اللاتحقيق في تفجير المرفأ، بلا نتيجة. وهي تتجنَّب أي تدقيق جنائي في مصرف لبنان أو أي مرفق أو مؤسسة. وهي تتهرّب من شروط الإصلاح المطلوبة دولياً. وقد اعتاد أركانها التعاطي مع الدستور كوجهة نظر. وعلى مدى سنوات، عطَّلوا الانتخابات النيابية أو الرئاسية والحكومات، وما زالوا.

 

يَظهر أصحاب السلطة وكأنّهم يعيشون في جمهورية «لالا لاند». ولكن، عملياً، ستكون انتخاباتهم الفرعية أول المفاتيح للدخول في الاستحقاقات اللاحقة، البلدية والنيابية والرئاسية، التي ستكرُّ مواعيدها حتى خريف 2022.

 

وفي أي حال، ستنطوي هذه الانتخابات، خصوصاً في أبعادها الصحية والسياسية، على مخالفة فاضحة لنص الدستور وروحيّته، وسيكون الطعن بشرعيتها ممكناً ومبرَّراً. فهل تتحمّل هذه السلطة طُعوناً وشكوكاً جديدة في سلوكها؟