Site icon IMLebanon

“الاستقواء” في جرود جبيل مستمرّ… أملاك المسيحيين ليست “سائغة”

 

 

في “الغابات” و”أفقا” و”لاسا

 

 

من الآخر، الوضع في جرود جبيل ليس بخير. ثمة بلدات يفترض أنها في أمان وسلام ووئام لكنها ليست أبداً كذلك وآخرها (لا آخر): بلدة “الغابات” المارونية، جارة “أفقا” و”لاسا” الشيعيتين، وحارسة القمر. هناك، في الغابات، قد يشعر المرء بقدرتِهِ على ملامسة السماء… لكن، سيستحيل عليه رؤية “مسّاح” يُنهي تسلّط بعض “الجيران” على مساحات في الجردِ على قاعدة: نفعل وتقبلون ونقرّر وتفعلون. هناك، في الغابات – أفقا وأفقا- الغابات صورة متكررة لجيران أمسك أحدهم بسلاح فظنّ نفسه ملكاً. فلندخل في التفاصيل: لماذا تتكرر أسماء الغابات وأفقا اليوم؟ هل ستنتهي كما تنتهي – في كلِ مرّة – قصص “لاسا” على قاعدة “لا معلّقة ولا مطلّقة”؟ وماذا يعني أن يطيح ناس – مجدداً – بقرارٍ قضائي ويرمون الحجارة على قوى أمنية فتتراجع؟ هل نحن في دولة أم في مزارع تنتشر على عينك يا… فاجر؟

 

 

 

كم سمعنا في آخر عقدين باسمِ “لاسا” التي تُشكّل جغرافياً مع “أفقا” و”الغابات” ما يُشبه المثلث: بلدتان شيعيتان تتوسطهما بلدة ذات أكثرية مارونية. ليس هذا هو التفصيل. فلا فرق بين مواطنين – طوائف – جيران – أحباء إلا على قاعدة القانون والحقّ والعدالة. ومن هنا نبدأ.

 

 

 

نعبر فاريا، حراجل، كفرذبيان، ميروبا… في اتجاه “لاسا”. نعرف أننا في “عرينها” من صور “المظاليم” وهي العبارة التي تُذيّل صوراً: الشهيد المظلوم… والشهيد المظلوم… والمظلوم الشهيد… نعم، ثمة ظلم كثير في الحياة. لكن، ما يتناساه كثيرون أن من يتعوّد على الظلم قد يعجز عن فهم العدل.

 

 

 

كلامٌ كثير يتكرر. بيانات. قيل وقال. وفعل وردّ فعل. نعبر “لاسا”. “قهمز” على طريقنا. سيارات “مفيمة” تعبر بسرعة. “كل يوم عاشوراء” عبارة تطلّ على العابرين. سيارة ملتحفة بالاصفر الباهت. وصورة السيّد نصرالله مذيلة بعبارة: “سماحة العشق”. منزل بسام المقداد على اليمين. و”مظلوم” آخر على الشمال: الشهيد نقولا محمد المقداد. هذا هو التعايش. شيعة سموا نقولا ومسيحيون سموا علي. ولكن… ثمة ما يشحن النفوس ويفيض.

 

 

فوج المدرعات في “لاسا”. و…ها نحن في “الغابات”. إنها ترحّب بنا على بعد 50 كيلومتراً عن بيروت وارتفاع 1100 متر عن البحر. البلدة “قفرة نفرة”. أشجار تفاح في نهايات موسمها. وسنديان وشوح ورائحة بخور. سيارة لبلدية “الغابات” نلمحها تحت الطريق العام. ورجل، في المقلب الثاني من العمر، يتمشى بين غرساته في أسفل الجرود التي تشهد المشاكل بين المجتمعَين المجاورَين. هو يعمل في البلدية. يتوجه إلينا عارفاً من دون أن نسأل “حديث اليوم” في تلك البقعة: “المشاكل بيننا تتكرر. ليس بيننا وحسب بل بين بعضهم البعض أيضاً وغالبيتهم من آل زعيتر. واليوم (أول البارحة) هناك “صلحة” بين بعضهم. ثمة رصاص وآر بي جي نسمعها حين يتشاجرون على فتاة و”خطيفة” ومياه و”أخذ وردّ”. نسأله: الجرد العالي لمن يتبع؟ يجيب: “كلها أراضي تفاح لنا. نصل إليها من “أفقا”. يملكها آل الراعي وكرم وقرقفي”. نطلب منه مرافقتنا إلى الجرد فيجيب: “بلاها هاليومين”. هو خائف؟ “ليس خوفاً لكن القلوب مشحونة”.

 

 

 

تعديات… ومستندات بين الأيادي

 

 

أتت القوة الضاربة – الفهود البارحة فأقفلوا عليها الطريق. نتابع طريقنا. عدد مواطني “الغابات” في الشتاء أقل من أصابع اليدين. ثمة دخان موقدة يخرج من أحد البيوت. ندخل إليه. ثمة رجلان أحدهما من “الغابات” والثاني من “المزاريب” المجاورة، انتهيا للتوّ من خلط التبولة وشوي البطاطا. لدى الأول وهو من آل الراعي كيس كبير من السندات التي تثبت ملكية الأراضي والجرود، أما الثاني فيُحبذ السكوت على قاعدة “السكوت من إلماس”. نصغي إلى ابن “الغابات” وهو يحدثنا عن التاريخ والحاضر: “التعديات تعود إلى العام 1999. نأخذ أحكاماً عليهم من القضاء الجزائي ولا تنفذ. لدينا أرض مساحتها 170 ألف متر فوق (في الجرود) وأرض ثانية مساحتها 13 ألف متر. اعتدى آل زعيتر عليها. كل المعتدين من آل زعيتر. اشترينا الأراضي من دير مار عبدا العام 1951. وكانت الحال في أحسنها لكن، في العام 1999، يوم شعروا بفائض القوة، بدأوا التعديات. الأملاك في المنطقتين غير ممسوحة لكن لدينا عقود بيع بها مسجلة العام 1993. بدأت التعديات عملياً العام 1999. في إحدى المرات كنت “أدق” بئر مياه في أرضي فأتوا وهددوني بحرق “الدقاقة”. رفعت عليهم دعوى وربحت بعد 22 عاماً. هذه حالنا على الدوام تعدّ ودعاوى وتجاوزات لقرارات التنفيذ”.

 

 

 

والبارحة، قبل عامين، ضربوا مواطناً من آل الراعي كان في أرضه في الجرد. وأول البارحة فعلوا هذا وهذا وهذا… لكن، ماذا عن تجاوزات اليوم؟ قبل 46 عاماً كانت “الغابات” و”أفقا” بلدة واحدة وحصل الانفصال. أصبحتا بلدتين وبلديتين. رئيس البلدية هو جيلبير قرقفي. قبله كان والد ريما (والد زوجة سليمان فرنجية بشارة قرقفي) الذي فقع ومات بذبحة قلبية لكثرة ما عانى من تجاوزات. لكن، أليس في هذا الكلام نوع من مبالغة؟ ينتفض ابن “الغابات” لهذا السؤال مؤكداً أن حرقة من يعتدون على أرضه لا يفهمه إلا المعني.

 

 

 

أهالي “الغابات”- كما كثير من أهالي البلدات اللبنانية – اغتربوا. سيمون القرقفي قدم العام 2017 سيارتين إلى البلدية. وقدم مغترب آخر كلفة أعمال تشييد أكبر كنيسة في لبنان “مار يوحنا مارون. فلنسأل رئيس بلدية “الغابات” عن مستجدات البلدة؟ يجيب جيلبير قرقفي “بيننا وبينهم القضاء فلنتركه يقول كلمته. نحن لجأنا إليه أما هم فلا. حصل الاعتداء الجديد على وقف مار الياس. بنوا عليه بحجة إيواء نازحين من الطائفة الشيعية بموجب علم وخبر من مختار “أفقا”. وهذا طبعاً لا يجوز من حيث المبدأ. فالعلم والخبر يفترض أن يأتي من مختار “الغابات”.

 

 

 

نحو أفقا… سرّ

 

 

نتجه صوب “أفقا”. يوم انفصال البلدتين كان عدد الشيعة في “أفقا” قليلاً “تربلوا” وأكثر. أصبحوا 2500 على لوائح الشطب أما أهل “الغابات” فتقلصوا وأصبحوا نحو 500 مواطن. يحمل ابن “الغابات” دفتراً (الدفتر الشمسي) والحجج التي لديه ويقرأ ما فيها مكرراً: “نحن نحوز كل المستندات وقدمناها للقضاء”.

 

 

في الطريق إلى “أفقا” تتكرر مشاهد “لاسا”. صورة وعبارة: الشهيد علي زعيتر. البيوت مشلوحة على الميلين بعضها ما زال “باطوناً” غير مكتمل. فلماذا لم يسكنها النازحون بدل افتعال مشكلة؟ منتزه مغارة عشتروت مهجور. وعبارة “بالدم حفظوا الوصية” و…شهداء مظاليم على مدّ العين. نتجه صوب الحسينية. نصعد نحو الجرود. هناك بيت شيّد للتوّ هو بيت القصيد. لا قوى أمنية في المكان. الضباب كثيف والرجال كلهم في عزاء في الحسينية. وعبارة “كربلاء” تتكرر.

 

 

 

رئيس البلدية الحالي في “أفقا” هو عباس زعيتر استلم البلدية العام 2020 بعد استقالة رفعات مهدي زعيتر. فماذا يقول الرئيسان السابق والحالي؟ رفعات زعيتر يقول “مشكلتنا معهم على الخراج. ولدينا مستندات وأوراق ثبوتية. الأرض ملكنا، باسمنا، والعقار لنا. لكنهم يفتعلون مشاكل. نحن جيران ونريد العيش معاً. الجيش اللبناني أجرى تسوية”. ويستطرد: “إذا لم تكن الأرض لنا فسنقدمها لهم وشو بدن يعملوا يعملوا…”. ما رأي رئيس بلدية أفقا الحالي عباس زعيتر؟ يجيب عباس “البناء شيّد على أرض ملكية لبيت زعيتر أباً عن جد”. لكنْ، ثمة قرار بإيقاف الأعمال في الجرود منذ العام 2016؟ يجيب “صحيح، أوقفنا العمل في حينه لكن الأهالي اضطروا اليوم إلى العمار إثر نزوحهم”.

 

 

 

تناقض وتجاوز للقضاء

 

 

ثمة تناقض كبير في الكلام. ثمة كلام عن القضاء وعن أملاك خاصة ثم اعتراف بقرار قضائي قضى بإيقاف العمل ثم العمل مجدداً بداعي النزوح الذي أصبح بمثابة شماعة. نكاد نضيع بين التأكيد والمؤكد. وتبقى الكلمة الفصل للقضاء فماذا قال؟ نعود للإصغاء إلى رئيس بلدية “الغابات” جيلبير قرقفي “القضاء أمر بإزالة المخالفة ولو كانت مثبتة لما قرر ذلك. لكن مخفر العاقورة الذي طلب منه القاضي سامر ليشع تنفيذ القرار لم يتمكن من إرسال عناصره لذلك. سامر ليشع أكد إصراره على التنفيذ. أتت قوة من الدرك لكن أهالي “أفقا” نصبوا لهم كميناً ومنعوهم. لهؤلاء أملاك في “الغابات” لا ننكرها لكن البناء الذي شيدوه ليس على ملكهم. هم بدأوا مخالفاتهم العام 2016 لكن القائمقام يومها نجوى سويدان أوقفتها. والقاضي العقاري أرسل مساحين لترسيم الأرض مرتين لكنهم منعوهم. مرجعنا كان ويبقى القانون والقضاء فليقل كلمته. إنهم يخالفون وهم يدركون تماماً ذلك. لكن، ما ارادوه هو البناء بشكلٍ مخالف ما دامت الأرض غير ممسوحة لجعل الأمر واقعاً. فلماذا كلّ هذا التجني اليوم. الأرض واسعة وتتسع للجميع. وإذا كانوا مستعجلين على البناء فليسمحوا بمسح الجرود. ثمة حقوق للناس. ومن يقتنص الفرص للقيام بمخالفات اليوم بحجة أنها قد تشرّع في يوم ما قد يعمد لاحقاً إلى تكرار مخالفاته على حقوق العالم. هذا حرام”.

 

 

القضاء قال كلمته أما التنفيذ فممنوع بأمرٍ من السكان. هذا بيت القصيد في “الغابات” و”أفقا”. نائبا المنطقة السابق (فارس سعيد) والحالي (زياد حواط) يناديان بالقضاء “فليقل كلمته”. فلتجر المسوحات اللازمة. فليأخذ كل صاحب حق حقه بلا فجور واستقواء. كل ذلك يحصل في ظلّ يقين الجوار المسيحي في جرود جبيل بأن هناك من يستقوي عليهم. هو شعور قاهر. فإذا كان من الظلم أن يرفض الإنسان ما يراه صواباً، فليس من العدل في شيء أن يقبل ما يراه خطأ.

 

 

 

من الغريب حقاً أن تعجز قوة ضاربة من 200 عنصر عن إزالة مخالفة وتطبيق القرار القضائي. والأكثر غرابة أن يعود القضاء (بعد عجزه عن التنفيذ) عن قرار مستعجل ويعطي مهلاً لإزالة الهدم. والأسوأ من كل هذا أن الناس- من يتمسكون بالقانون- يعلمون أن المهل قابلة للتجديد. فأيّ لبنان يبنى على استقواء طرف على طرف؟

 

 

 

الدولة في “كوما”. ندرك ذلك لكن الأرض لا تنتظر أن تستفيق. فلتمسح الأراضي. هو طلب يتكرر عند من لا يتمسكون إلا بالقانون والقضاء. وإن كانوا مدركين أن ذلك ليس بهذه البساطة. فبشارة قرقفي (عم سليمان فرنجية ورئيس بلدية الغابات سابقاً) شغل ذات فترة موقع مدير عام الدوائر العقارية “وما خلوه يمسح الجرود”.

 

 

 

في “لاسا”… مشهد واحد

 

 

نمرّ إلى جانب مغارة أفقا. لا مياه تتدفق منها. وحولها كثير من الشعارات عن دماء وكربلاء ومقاومة إسلامية. نعود أدراجنا. نمرّ من “لاسا”. هنا قبل عامين، “استقوت” جماعة شيعية على الكنيسة المارونية التي منحت خمسين عائلة، بينها ثماني عائلات شيعية، حق استثمار أراضيها. ويومها كتب مسؤول “حزب الله” في لاسا أحمد العيتاوي “يللي حابب يزرع بطاطا بدنا نفرمو متل ما بيفرمو السلاطة”. وصلت الرسالة. ولكن، الكنيسة أعلنت بالفم الملآن رفضها للغة الاستقواء. مرّ القطوع. لكنه عاد وتكرر من جديد، بقرار صدر من مكان ما، بوضع بيت جاهز في أرض مملوكة من الكنيسة، وتحديداً من مطرانية جونية المارونية، ورُكّزت في المكان راية حسينية. أليس هذا التصرف رسالة أخرى واضحة كما الشمس؟ نسأل عن وضع “لاسا” اليوم فنسمع جواباً فيه شعور بالظلم: الأمور معلقة والاستقواء مستمرّ.

 

 

 

مؤسفٌ طبعاً الكلام عن مسيحيين ومسلمين، وسنّة وشيعة، بعدما ظننا أن زمن الطوائف والمذاهب قد ولّى. لكن، هناك من يصرّ دائماً على التذكير: أنا هنا!

 

 

المسيحيون في جرود جبيل يتمسكون بالقضاء. الشيعة يقولون أيضاً – في الإعلام – إنهم يفعلون. ممتاز. فلتحلّ الأمور بمنطوق القانون. وليأخذ كل صاحب حقّ حقه. فهل هذا كثير؟ وهل حقوق المسيحيين يفترض أن تستمر سائغة تحت حجة: بلا مشاكل؟