حنان حيدر – جيزال صعيبي
لا تنتظر جبيل نهاية الإسبوع لتفتح أبوابها العتيقة للسهر. تسحب المدينة الأقدم على ساحل المتوسط من تاريخها وحضارتها ما تستثمره في حاضرها، فتزهو لتتربع على ليالي السهر. تمسك «بيبلوس» بيدها اليمنى ليس قضاءها فقط، بل كسروان والمتن وصولاً إلى بيروت، فيما تجذب باليسرى رواد السهر وصولاً إلى طرابلس. هناك «سرقت» جميلة المدن رواد البترون، التي طالما تربعت بعد سنوات من الحرب الأهلية، على عرش عشاق الليل.
التحول نحو استثمار التاريخ والجمال لمواكبة العصر وروحه، بدأ قبل 12 عاما وكان كفيلا بجعل «جبيل القديمة» تبرز هويتها من جديد باسم «جبيل الليلية». يومها قرر أصحاب المحلات في سوقها العتيق تأجير بعض ممتلكاتهم استثمارا وإفساحا في المجال لمشاريع جاذبة للسياح.
قبل ما يزيد عن عقد من الزمن، كانت جبيل تعتمد نهاراً على أسواقها التجارية ومعالمها السياحية من القلعة الصليبية، إلى الميناء، فالسور، مروراً بالمتحف الأثري والسوق العتيق. تجذب السيّاح نهاراً وتأتي ببعض المردود لتحسين وضعها الاقتصادي.
وبعد أن اهتدت المدينة إلى استثمار جمال إضاءتها وانعكاسها على حجارتها القديمة، ومعها طلتها البحرية ومرفأها بات ليلها نهاراً أيضاً. افتُتِحَت مقاهٍ وحانات ونوادٍ ليلية، لتجذب رواداً يوصلون ليلهم بالفجر. سحرت بما تختزنه محبي السهر وسرقتهم من جونيه والبترون. ولا يمكننا أن ننسى النجاح الذي أثمرته وما زالت «مهرجانات جبيل الدولية» واستقطاب مدرّجاتها حوالي ثمانية آلاف شخص في حفلة واحدة أحياناً، لا سيّما تزامناً مع إعلانها عاصمة السياحة العربية للعام 2016.
تدخل إلى سوقها ليلاً، فتجد زحمة النّاس إن كان من مدخل تمثال مارون عبود أو من المداخل الأخرى. ليلها يعجّ بالزّائرين أكانوا سياحاً خارجيين أو محليين. لكنّ الّلافت للانتباه هذه السّنة هو اعتماد أصحاب المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية على اللبنانيين من مختلف المناطق، إذ يؤكد غالبية العاملين في المقاهي والمحلات أنّ نسبة السّياح الأجانب تراجعت عن السّنة الماضية. أمّا المستشار الإعلامي لرئيس البلدية طوني صعب، فيؤكد أنّ النسبة متقاربة لا بل هي نفسها بالنسبة لعدد السّياح الأجانب لعامي 2015 ـ 2016.
تجذب جبيل مختلف الفئات العمرية، بالأخص فئة الشّباب، نظراَ لوجود عشرات النوادي الليلية في الأسواق القديمة وفي الهواء الطّلق. يستمتع السّاهرون بالرّقص على أنغام الموسيقى المتنوعة، والّتي يبقى صداها مرتفعاً حتى الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل، باستثناء يوم السّبت حيث تبقى الموسيقى صاخبة حتّى الثّانية فجراً. إنّها قوانين تلتزم بها كل هذه المقاهي ويشرف على تطبيقها عناصر من قوى الأمن الداخلي، يجولون في أرجاء الأسواق الجبيلية.
يؤكد أحد هؤلاء العناصر أنّ القوانين سارية ويطبقها الجميع، فلا وجود لأية مشكلات. ويشير صعب إلى أنّ البلدية لم تتلقَّ أيّة شكاوى من سكان المدينة بسبب الموسيقى، مشيراً إلى أنّ معظم مالكي المقاهي والمطاعم والحوانيت في السوق العتيق، هم من أبناء جبيل.
في المقابل، وبعد ليلٍ طويل، تقول إحدى النساء الجبيليات التي كانت تحتسي القهوة على شرفة منزلها، على بعد أمتار من نوادي السهر في السّوق إنها «وكل سكان المبنى» ينفرون من «الضجيج والموسيقى المرتفعة». تقاطعها شريكتها في القهوة «إنّه موسم الصيف الجميل»!
تتمركز أماكن السّهر بمعظمها في السّوق القديم الذي يقطن فيه أو بمحاذاته مباشرة قلة من ابناء المدينة. حصل أن افتتح أحدهم ناديا ليليا في حي سكني، وتحديداً في الطابق الأرضي لأحد المباني المسكونة. اشتكى السكان إلى الشّرطة السّياحية والبلدية، وأتت الحلول «جزئية» كما وصفوها و«لمدّة محدودة». انتهى الأمر بمشاكل بين أحد السكان وصاحب الملهى الذي اضطر للإقفال.
أمّا منازل السّكن المحيطة بالسوق العتيق فليست كثيرة. يرتبك جيران الحانات في التعامل مع الموضوع. يختصر أحدهم الواقع باحتمالات ثلاثة: يرى البعض أن يد أصحاب النوادي والحانات «طايلة» وبالتالي يختارون عدم الوقوع في مشاكل معهم، يقبل البعض بهوية جبيل الجديدة القائمة في جزء كبير منها على السهر وحياتها الليلية، فيما يئس آخرون من رفع الصوت بعدما وجدوا أن لا أحد يسمعهم.
«يحولون جبيل إلى مرابع ونوادٍ ليلية، فيمحون طابعها الثّقافي ـ التراثي»، هكذا يعبّر بعض سكان المدينة على مواقع التّواصل الاجتماعي، مبدين تخوفهم من فرض جبيل جديدة منسلخة عن تاريخها.
عن هذا الاعتراض يردّ صعب أن لا أحد يمكنه طمس الهوية الثقافية ـ التّاريخية لجبيل، فهي بالطبع «موجودة بوجود القلعة ومتحف الشّمع والسّوق العتيق بحد ذاته، وكذلك في طابعها العمراني. والمميّز بـ«بيبلوس» جمعها بين السّهر والحضارة والقديم والجديد كما معظم مدن لبنانية أو أوروبية أخرى».
تنفرد بيبلوس بسحرها الجاذب، وتجمع بين القديم والجديد، فعلى الرّغم من تكاثر المقاهي الليلية، إلّا أنّ المحال التجارية الّتي تبيع السلع التراثية من «الطربوش» إلى المسابح ما زالت موجودة بقوّة، كسبيل للمحافظة على الطّابع التّراثي ـ الثّقافي للمدينة. بالتّالي، تجذب المحلات السّياح الأجانب لاقتناء تذكارات لبنانية يحملونها إلى بلدهم، كما تستقطب اللبنانيين من مختلف الأعمار أيضاً لزيارة السّوق، ولربما لاستذكار أيّام قضوها في جبيل العتيقة.
وتبقى ليالي جبيل مميّزة ولها نكهتها الخاصة، تمثّل «منزل الراحة لمن يريد الهرب من ازدحام وضجيج بيروت»، كما تقول سيدة قصدتها مع صديقتها. تتوقف «الزائرة» عند نظافة شوارع المدينة وخلوها من النفايات بالرغم من معاناة مناطق أخرى منها.
«هنا نشعر بالأمان أيضاً»، تعبّر مجموعة من الصبايا اللواتي قصدن جبيل وحيدات. أمّا الشبان ما دون العشرين فيرون أن أسعار جبيل مقبولة وفق مستوى مصروفهم، وكذلك قريبة من أماكن سكنهم، و «جوّها ملائم».