أزمة الثقة تتفاقم يوماً بعد آخر بين حزب الله والتيار الوطني الحر. المشكلة، هنا، لا تتعلق بخلاف حول بند على جدول أعمال مجلس الوزراء، أو على تشكيل لائحة انتخابية نقابية أو نيابية، ولا حتى على توزيع حقائب وزارية. انتقل الطرفان إلى مرحلة مختلفة، صار معها التصادم احتمالاً جدياً في ضوء بعض ما جرى في الأسابيع الماضية.
التباين لا يقتصر على مقاربات مختلفة للملفات الداهمة. بل ثمة خطورة كبيرة في أن الطرفين يتصرّفان من دون أن يأخذا في الاعتبار حجم التطورات التي حصلت أخيراً، وأبرزها خسارة الغالبية النيابية في المجلس، ثم خروج الرئيس ميشال عون من القصر الجمهوري. وانتظام الفريق المعادي لهما ضمن موجة ضغط قصوى تمارسها الولايات المتحدة بمساعدة السعودية، وبمناورة متروكة لفرنسا وقطر. وفيما كان يفترض بالجانبين إجراء مراجعة من نوع مختلف غداة حراك 17 تشرين الذي لم يكشف عن عمق الأزمة العامة في البلاد كما يعرفها الجميع فحسب، بل كشف عن قدرة جدية لدى الطرف المعادي على استغلال الضغوط المعيشية لتحميل المسؤولية عن الانهيار إلى ثنائي حزب الله – التيار الوطني الحر. وهو ما شكّل عنوان الحركة السياسية التي واكبت تلك التحركات، والتي كانت جوهر الحملة الانتخابية لفريق أميركا والسعودية. وهو العنوان الذي يرفعه سارقو البلاد وناهبوها منذ عقود، في معرض تبريرهم للجرائم الكبرى التي ارتكبوها. وهؤلاء تجمعوا في الأندية السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والإعلامية والدينية وغيرها من المنتديات التي انضم إليها فريق الجمعيات غير الحكومية الممولة من أعداء المقاومة في لبنان والمنطقة.
ولم يكن سهلاً ما تعرض له الرئيس عون والنائب جبران باسيل والتيار الوطني من حملة مركّزة لم تترك شيئاً إلا واستخدمته في مواجهة الدور الذي يلعبه هذا الفريق. وإذا كانت في لبنان قوى وتيارات سياسية وشعبية تحتج على أداء التيار في الدولة، فإن الهدف الفعلي لهذه الحملة لدى الممسكين بقرار المحتجين كان تدفيع التيار ثمن علاقته بالمقاومة وتمسّكه بسلاحها، ليس بوصفه أمراً واقعاً مفروضاً كما يقول كثيرون بينهم أصدقاء للمقاومة، وليس للدفاع عن لبنان في وجه تهديدات العدو الإسرائيلي كما يقول من يريدون الابتعاد عن السجال المباشر مع حزب الله، بل لكونه يمثل عنصر قوة يمكن للبنان الاستعانة به في الملمات، من مواجهة الحرب التكفيرية إلى معركة تفاهم الحدود البحرية، وما بينهما من محاولات لخلق توترات أهلية واسعة.
وقد خضعت قناعة التيار الوطني الحر بالمقاومة لاختبارات عدة منذ عام 2005. وهو لم يكن شريكاً في الحرب على المقاومة التي قادها تحالف 14 آذار، بل كان ساعياً إلى تفاهم بوصفه حلاً لجانب من مشكلات البلاد. وأمام اختبار حرب تموز عام 2006، لم يكن أحد، بما في ذلك أركان المقاومة نفسها، يفكر بأن العماد عون والتيار سيقفان في الموقع الذي تمسكا به. ولدى احتدام الأزمة الداخلية، كان عون إلى جانب ما فعلته المقاومة في 7 أيار عام 2008، وهو تصرف بواقعية مع نتائج مؤتمر الدوحة التي أبعدته ثماني سنوات عن الرئاسة الأولى. وعند اندلاع الأزمة السورية، لم ينجرّ عون وفريقه إلى الحملة الشعبوية التي قادها الغرب وحلفاؤه من العرب واللبنانيين باسم الحريات وخلافه (وهي حملة وقع كثيرون من حلفاء المقاومة في فخها، بما في ذلك فريق أساسي في هذه الصحيفة)، وكان للعماد عون والتيار موقف واضح، بمعزل عن خلفياته التي يريد البعض حصرها في «ذعر الأقليات». وتجاوز عون الملف السوري نحو مقاربة مختلفة للعلاقة مع العالم العربي. صحيح أنه اقتنع بالمشرقية علاجاً يعفيه من سؤال تاريخي حول العروبة والمسيحيين، لكنه لم يكن على تماه مع الدول العربية التي انخرطت في معركة تدمير سوريا والتآمر على المقاومة. لم تكن علاقة التيار بالسعودية يوماً في موقع يمكّن الرياض من استخدامها بوجه المقاومة. ونجح عون في عكس الأمر على شكل فعالية سياسية لتياره المنتشر بقوة وسط مسيحيي لبنان، وكان له صداه بين مسيحيين مشرقيين أيضاً، إضافة إلى بلاد الاغتراب.
والصحيح، أيضاً، أن عون والتيار الوطني وباسيل ليسوا جمعية خيرية. وليسوا في موقع المضحّي من دون السعي إلى تحقيق أهداف. وعنوان رئاسة الجمهورية كان مشروعاً منذ اليوم الأول، وعندما خاض حزب الله معركة إيصال عون إلى القصر الجمهوري، لم يكن يفعل ذلك فرضاً على الآخرين. لم يكن عون الياس الهراوي أو ميشال سليمان، كما لم يكن إميل لحود آخر، بل كانت له شرعيته الحقيقية، السياسية والشعبية والمحلية والإقليمية والدولية. وكان الوقوف إلى جانبه عنصر دعم لطرف قادر على خوض المعركة. وعندما وصل إلى القصر الجمهوري، لم يتصرف وفريقه على أنهم وصلوا من تلقاء أنفسهم. ولم يتصرفوا يوماً خلاف المنطق الذي يقول إن حزب الله هو من قاد المعركة ونجح في خلق واقع فرض على الجميع في لبنان وخارجه القبول بوصول عون إلى بعبدا.
في السنوات الأولى لولاية الرئيس عون، عندما بادر باسيل إلى عقد اتفاق مع الرئيس سعد الحريري وفريقه، لم يكن حزب الله غائباً عن السمع. حتى ولو ذهب باسيل ببعض الملفات إلى حدود ارتكب فيها الكثير من الأخطاء على صعيد الإدارة. وبصراحة شديدة، قال الجميع لعون ولباسيل، بعد مرور النصف الأول من الولاية، إن الأخطاء في اختيار الموظفين للمناصب الرئيسية كانت كبيرة جداً، وإن عون تعرض لعملية خداع كبيرة من عدد ممن يتولون مراكز أساسية في الدولة اليوم، من قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود وصولاً إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كان يفترض بعون مقاومة كل الضغوط والإصرار على عدم التجديد له. لكنه وقع ضحية الضغوط التي مورست ليس من حلفاء سلامة في القوى السياسية الأخرى، بل من المؤسسة الاقتصادية والمالية والدينية للمسيحيين في لبنان، والتي أوحت لعون بأن إبعاد سلامة يضر بمصالح المسيحيين.
بعد اندلاع حراك 17 تشرين، كان واضحاً أن ولاية الرئيس عون انتهت. من يومها صار باسيل هو العنوان الرئيسي للمعركة السياسية، ولذلك كان معداً له منذ اليوم الأول أن يكون هدف العصابات التي اجتاحت الحراك الشعبي وخطفته إلى حيث انتهى على صورة بعض النواب الذين لا يفهم عليهم إلا الله. بينما غرقت البلاد ولا تزال في مرحلة الانهيار المتسارع لكل ما له صلة بالدولة والمجتمع وحتى العلاقات بين الأفراد.
وفي هذه المرحلة، كان باسيل هدفاً ليس للكسر فقط، بل لتحطيم كل البناء الذي قام على أساسات تفاهم مار مخايل. وتطور الأمر حتى بلغ مرحلة مبادرة الولايات المتحدة مباشرة نحو باسيل، وتخييره بين الخضوع للعقوبات السياسية والاقتصادية وتالياً الإعلامية، وبين فك العلاقة مع حزب الله. ويعرف الحزب، من أعلى هرم القيادة فيه، أن باسيل لم يفكر كثيراً في الأمر عندما قال للأميركيين: لا!
لم تكن خطوة انفعالية من الرجل. حتى ولو كان النقاش حول فعالية العلاقة مع الحزب قد تسلل إلى غرفة نومه. بل كان يعرف تماماً نتائج الأمر. لكنه كان يعرف، أكثر، أن جدار المقاومة الذي يستند إليه قوي بما يكفي لمنع التفرد به وعزله وكسره. وهو جنى بعض هذه الثمار في الانتخابات النيابية الأخيرة. ولو أنه أحسن إدارة بعض ملفاتها لكان فاز بمقاعد أكثر من التي فاز بها. واستمر باسيل في التنسيق مع الحزب في كل الملفات حتى وقعت الواقعة، للمرة الأولى، عند انتهاء الانتخابات النيابية وبدء النقاش حول الحكومة الجديدة.
عند هذه النقطة، صرنا أمام واقع جديد. رفض باسيل تجديد الثقة بالرئيس نجيب ميقاتي. وصارح الحزب بأن ميقاتي يمثل امتداداً لكل السياسات السابقة، وأن تحالفاً يجمعه مع الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط، وتحالف سياسي ومالي محلي وخارجي، سيعيق أي إمكانية لتغيير آليات العمل في مواجهة الأزمة التي تعصف بالبلاد. صحيح أن حزب الله لا يعمل وفق أجندة باسيل، وهو لذلك وجد أن المعركة حول لبنان تستوجب المناورة التي تقضي بأن يكون ميقاتي رئيساً للحكومة بعدما منع الحريري من تولي المهمة. ومع أن باسيل لم يدرك المعنى الخارجي لهذه الخطوة، إلا أنه كان يعرف أن الفريق الآخر لن يقبل به شريكاً كاملاً لا في الحكومة ولا في إدارة المرحلة المقبلة، خصوصاً أن المعركة الرئاسية على الأبواب. عند هذا الحد، صرنا أمام واقع جديد.
ليس مقبولاً أن يتصرف باسيل على أن حزب الله يعمل في خدمته. لكن ما هو غير مقبول، أيضاً، أن يتصرف حزب الله على أساس أنه سبق لنا أن سلّفنا الرجل الكثير، فليرد لنا الآن في ملف الرئاسة. هي ليست مقايضة من النوع الذي تسمح به ظروف الطرفين، بل ثمة حاجة إلى صفقة من نوع مختلف.
أولوية حفظ المقاومة عند الحزب اصطدمت، للمرة الأولى، بأولوية مسار بناء الدولة عند باسيل
في هذه المرحلة، كان على باسيل أن يعيد تقديم سرديته بطريقة أكثر وضوحاً للحلفاء وخصوصاً لحزب الله. يقول إنه فعل ذلك، لكن مناقشاته مع حزب الله لا تشير إلى أنه كان صريحاً كفاية أو حتى واقعياً كفاية. تصرف الحزب مع باسيل وكأن الأمور لا تزال على حالها، وتجاهل الحزب حقيقة أن المعركة الوجودية عند باسيل ليست مسألة ثانوية. وهي معركة أساسية بمعزل عن صحة تشخيصه أو خطأه. لكن كان متوقعاً، وبصورة لا تقبل النقاش، أن باسيل لن يقبل باختيار سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. وهو قدم مطالعة مفصلة أمام السيد حسن نصرالله، جعلت الأخير لا يقاومها بصورة كاملة. لكن للسيد نصرالله مقاربته المختلفة لملف رئاسة الجمهورية. وهذه المرة، لم يكن حزب الله صريحاً بما فيه الكفاية مع باسيل حول هواجسه، وأن هوية الرئيس المقبل تمثل أمراً استراتيجياً بالنسبة له لا يقل حساسية عن أي ملف آخر. لكن الفارق بين الطرفين أن أولوية حفظ المقاومة عند الحزب اصطدمت، للمرة الأولى، بأولوية مسار بناء الدولة عند باسيل.
اليوم، نحن على شفير خلاف حقيقي ونوعي. ثمة الكثير من التفاصيل حول مناقشات جرت وتجري وستجري. وثمة توترات واضحة في النبرة والكلام في المجالس المغلقة. وثمة ريبة قائمة في بعض الأمور. لكن أزمة الثقة إذا ما تفاقمت حدّ الصمت، وحيث يبدأ كل طرف بعدم قول ما عنده للآخر، وتغيب الصراحة وتحل محلها المحاباة والمراضاة لا غير، نكون نسير بخطى نحو الأزمة التي لا يمكن للبنان تحملها الآن.
الواقعية توجب على الجانبين الاستنفار من أجل حوار مفتوح بطريقة مختلفة عن آليات التواصل القائمة الآن، والتي تتخذ طابعاً تنفيذياً لا يصل في كثير من الأحيان إلى قلب المشكلة. وليس أمراً مسموحاً به، لا عند حزب الله ولا عند التيار الوطني الحر، أن يتم التفكير بتسوية الأمر على طريقة رمي الوسخ تحت السجادة. الأمر يحتاج إلى مبادرة كبيرة وجريئة تفتح الملفات كلها دفعة واحدة، ونقاش مركز يستهدف الوصول إلى تسوية جديدة، فيها عناوين الاتفاق وفيها عناوين الخلاف، لكن، ليس فيها أي عنوان يمكن أن يقود إلى طلاق يريده كل أعداء الطرفين في لبنان وخارجه.!