أطلق البيان المشترك الذي صدر عن «الثنائي الشيعي» بشأن العودة الى مجلس الوزراء مجموعة من السيناريوهات الخاصة بالظروف التي قادت الى هذا التطور الذي فاجأ أهل البيت قبل الخصوم. وفي ظل التشكيك المستمر بالنيات والخلفيات، يبدو إصرار الثنائي على اعتباره «شأناً داخلياً» غير مقنع قياساً على المتغيّرات الاقليمية. وإن وجد من يشارك الثنائي رأيه فإنّ لديهم ما يكفي للدلالة الى صعوبة الفصل بين الامرين؟ كيف ولماذا؟
قد تكون المرة الاولى التي تتلاقى فيها القراءات الخاصة بـ «الثنائي الشيعي» ومجموعة من المسؤولين اللبنانيين، على وضع التطور الجديد الخاص بعودة وزراء حركة «أمل» و»حزب الله» الى المشاركة في اعمال مجلس الوزراء متى دُعي الى الإجتماع، في إطار اللعبة الداخلية، ولأسباب خارجة عمّا يدور في المنطقة والعالم. وما يمكن ان تؤدي اليه اجتماعات فيينا في شأن الملف النووي الايراني، او المفاوضات السعودية ـ الايرانية المتنقلة بين بعض العواصم المضيفة، من بغداد الى عَمّان فعُمان،عدا عمّا يمكن ان تحمله الرسائل المتبادلة بين الطرفين بالقنوات الديبلوماسية التي حملها اكثر من شريك او صديق مشترك.
فمن استطلع الأجواء التي رافقت الإعلان المفاجئ عن القرار بالعودة الى اجتماعات مجلس الوزراء يوم السبت الماضي، وتلك التي سادت في الساعات القليلة الماضية، يمكن ان يتيقن من صعوبة الفصل بين ان تكون الأسباب محض خارجية او داخلية. فبمعزل عن الشروط التي تضمنها البيان بحصر مشاركة وزرائهم بالجلسات المخصّصة لـ «إقرار الموازنة العامة للدولة ومناقشة خطة التعافي الاقتصادي»، فإنّها تلاقت بطريقة إيجابية مع مطالب بقية الأطراف التي حمّلت الثنائي مسؤولية الشلل الحكومي. وهي خطوة شكّلت اعترافاً غير مسبوق بمسؤوليتهم عمّا حصل في هذا الشأن. فلم ينس أحد انّ هذه النقاط كانت في رأس مطالب عدد من المسؤولين المطالبين باستئناف جلسات الحكومة وفي مقدّمهم كل من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وآخرين من القيادات الروحية والحزبية من اهل البيت وخارجه.
إضافة الى ذلك، فإنّ البيان ربط هذين البندين بثالث «مطاط»، يمكن ان يحتمل كثيراً من التفسيرات على اكثر من مستوى، عندما قال انّ الحكومة يمكن ان تبحث في «كل ما يرتبط بتحسين الوضع المعيشي والحياتي للبنانيين»، وهو ما سيسمح بأن يتوسع مجلس الوزراء بالبحث في اي موضوع كان تحت هذا العنوان الفضفاض. وهو أمر لا يمكن ربطه بصلاحيات رئيس الحكومة، فهو في إمكانه ومن ضمن صلاحياته، ان يحدّد جدول اعمال كل جلسة يدعو اليها. فكلها عناوين تندرج تحت هذه الخانة. وهو ما أشار اليه البيان عندما تحدث عن «أزمة اقتصادية ومالية لا سابق لها، تتمثل على وجه الخصوص بانهيار العملة الوطنية، وحجز أموال المودعين في المصارف اللبنانيه، والتراجع الكبير في الخدمات الأساسية، خصوصاً في قطاعات الكهرباء والصحة والتعليم، وسط أوضاع سياسية معقّدة على المستوى الوطني والاقليمي، وما له من انعكاسات خطيرة على المستويات المعيشية والاجتماعية والأمنية».
وإن توقف المراقبون أمام ما يمكن ان يسمّيه البعض «تنازلاً» شيعياً عن قضية «قبع» القاضي طارق البيطار، فإنّه أمر غير ثابت حتى اللحظة. ذلك انّه لم يكشف بعد عن أي «تفاهم عميق» يمكن ان يكون قد نسج في الخفاء قبيل صدور البيان حول مصير البيطار. كما انّ البيان لم يوحِ بذلك، لمجرد الإصرار على حلّ هذه المعضلة، ولكن من خارج جدول اعمال مجلس الوزراء، طالما انّه لم يُدرج على جدول اعماله. وهو ما ظهر جلياً عند مقاربته على انّه بند عالق بعد فشل «كل المحاولات القانونية والسياسية والشعبية، لدفع المحقق العدلي ومن يقف خلفه إلى العودة إلى الأصول القانونية المتبعة». وعليه، يظهر انّه امر مؤجّل لم يعد مرتبطاً بقرار «تعليق مشاركتنا في مجلس الوزراء»، مع التشديد على احترام مبدأ الفصل بين السلطات، باعتباره من خارج صلاحيات مجلس الوزراء، وهو يقع على عاتق السلطة القضائية وحدها. ولذلك فقد اعتبر البيان انّ المطلوب في شأن البيطار اتخاذ «خطوة سياسية ودستورية، تهدف الى دفع السلطات التنفيذية المعنية إلى إيلاء هذا الموضوع عناية قصوى، إنصافاً للمظلومين ودفعاً للشبهات وإحقاقاً للحق».
والى هذه الملاحظات التي لا بدّ منها عند تناول مضمون البيان، تبقى الإشارة ضرورية الى البحث في توقيته. فهو وبما حمله من مفاجأة – لم تكن محسوبة لدى كثر من المسؤولين الرسميين والسياسيين حتى من قياديي الحزب والحركة – فهو جاء في توقيت ملتبس جداً، زرع الشكوك بين القول انّ هناك أسباباً خارجية دفعت الحزب الى اتخاذ قراره الحاسم بالإفراج عن الحكومة، او انّها داخلية بحتة، نتيجة عوامل لا يمكن التطرق اليها بتفاصيلها، بعدما بلغت الأزمة الاقتصادية والنقدية مرحلة خطيرة هدّدت المؤسسات الدستورية في وحدتها ومناعتها، وهي لم توفّر بيئة «الثنائي الشيعي»، فهي من البيئة اللبنانية المتأثرة بما جرى، ولا يمكن الفصل بين معاناتها ومعاناة بقية اللبنانيين.
وإن شاء البعض ان يعتبر انّ ما حصل هو بدفع خارجي وتحديداً ايراني، تزامناً مع تقدّم المفاوضات الجارية مع السعودية، فهو استند الى تصريح أدلى به عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، جليل رحيمي جهان أبادي، الذي قال عبر حسابه على «تويتر» بفارق دقائق عن صدور بيان الثنائي: «إنّ العلاقات بين إيران والسعودية سيتمّ إحياؤها، وإنّ السفارتين تستعدان لإعادة فتحهما». ولكن، على من يعتقد بذلك ان ينتظر موقفاً سعودياً يؤكّد هذا التوجّه، وهو ما لم يحصل حتى اليوم.
وبناءً على كل ما تقدّم، لا يمكن الحسم مطلقاً عند البحث عن خلفيات التوجّه الجديد للثنائي إن كانت دوافعه خارجية أو داخلية، مع تغليب الرأي الثاني. فالمعلومات تتحدث عن تباين كان قائماً بين الحزب والحركة في شأن توقيت الخطوة التي طال انتظارها، وإنّ الحزب هو من ضغط في هذا الاتجاه والإسراع في اتخاذ المبادرة. وأنّ الحزب كان قد أبلغ الى أكثر من مسؤول رسمي، انّه لم يعد ممكناً تحّمل نتائج الشلل الحكومي. كما نُقل عن أحد المسؤولين الكبار فيه قوله ما معناه: «وإن رغب البعض في ان يعدّه انتصاراً لمنطق رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة او أي طرف آخر يدعو إلى إحياء العمل الحكومي فليكن ذلك، فهم من حلفائنا». فالحزب لا يختلف مع هؤلاء جميعاً حول ضرورة البت بالموازنة العامة، ولا يمانع من الإسراع في تحضير ملفات لبنان الى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فهو المعبر الاجباري لأي حل او على الأقل الخطوة الاولى على طريق التعافي، وهو أمر ليس مستغرباً. فكل الاطراف المعنية بهذا الموقف تعرف ذلك بالتفصيل، وقد نقلت هذه الأجواء الى مسؤولي صندوق النقد وكل الجهات الدولية والاقليمية التي ترغب بمساعدة لبنان في هذا المنحى، من أجل إطلاق هذه المفاوضات في أسرع وقت ممكن.