عندما يقفز خبر النفايات الى الصفحات الأولى وعناوين الصحف ووسائل الاعلام، فذلك يعني أن هذا الملف أهم بكثير من كل السجالات السياسية العقيمة، وهو بالفعل كذلك. لم يكن ينقص اللبنانيين في العاصمة وضواحيها، سوى تراكم النفايات و”طوفان” مستوعباتها وانفلاشها لكي يكتمل المشهد: نفايات على كل صعيد، في الحياة اليومية، بدءاً من الكهرباء والماء، وصولاً الى “كربجة” في المؤسسات الدستورية وتعطيل العمل فيها، وكل يغني على ليلاه، والقاسم المشترك الوحيد يكاد أن يكون إجماعاً على أنه بلد غير صالح للسكن! وأرقام تصاعد الهجرة في أوساط الشباب والحرفيين وخريجي الجامعات خير دليل…
وعندما تعجز الطبقة السياسية من خلال ممثليها في حكومة جعلها البعض حكومات، عن التفاهم على حل لمشكلة النفايات، وأماكن طمرها وإنشاء معامل لتدويرها والاستفادة منها، كما هي الحال في كل بلدان العالم، فهذا نذير سقوط وانهيار على كل صعيد، سياسي واخلاقي.
ولعلّ أبسط سؤال يمكن أن يوجه في خضم تفاقم مشكلة النفايات وانفلاشها هو: ألا تستحق هذه المشكلة اجتماعاً طارئاً لمجلس الوزراء، أو لجنة طوارئ حكومية تبقي اجتماعاتها مفتوحة حتى ايجاد حل للمشكلة؟
ألا تستحق التوقف عن المكابرة والتعطيل من خلال ربط البحث في أي بند في مجلس الوزراء بما بات يعرف بـ”آلية العمل” وكل من “الحكومات” التي تعشش فيه يفصّل الآلية على قياسه ووفق مصالحه وحساباته؟
ألا تستحق اجتماعاً طارئاً لمجلس النواب في إطار ما يعرف بـ”تشريع الضرورة”؟
ألا تستحق تحركاً ممن يهددون يومياً بالنزول الى الشارع، من أجل شعاراتهم ومطالبهم؟
ألا تستحق تفاهماً من الطبقة السياسية و”كبار القوم” وهم مختلفون على كل شيء في السياسة، فليتفقوا، أقله على آلية حل مشكلة النفايات. تلك هي الآلية الضرورية والملحة والتي يجب أن تكون فوق كل اعتبار!
ولئن يكن طبيعياً أن يكون وزير البيئة في مواجهة مباشرة مع المشكلة الضاغطة، فإن المسؤولية جماعية، تمتد من مجلس الوزراء الى مجلس النواب مروراً بكل “الدويلات” وحساباتها واعتباراتها، وقد نجحت في تقسيم اللبنانيين وشرذمتهم من خلال الخطاب السياسي الفئوي، وهي مسؤولة عن توحيد الموقف “الوطني” حيال مشكلة النفايات على الأقل…
غداً سيجد مجلس الوزراء نفسه أمام عنوانين كبيرين: الأول، آلية العمل اللازمة لمعالجة مشكلة النفايات، والثاني، آلية العمل في مجلس الوزراء التي يصر فريق سياسي على رفض البحث في أي بند قبل البحث فيها!
هل “يتواضع” هذا الفريق، ولو استثنائياً ولمرة واحدة و”يسمح” بمناقشة ملف النفايات المهدورة بنتيجته حقوق الجميع مسلمين ومسيحيين، وبهذا المعنى هو يشكل جزءاً أساسياً من “حماية الحقوق” التي يرفع لواءها أصحاب هذا الشعار؟
بالأمس، قال رئيس “تكتل التغيير والاصلاح” النائب ميشال عون في حديث الى احدى وسائل الاعلام الايرانية إن “لا نية لإسقاط الحكومة، وإنما المعارضة من الداخل والتحرّك في الشارع”، مكرراً رفض البحث في أي بند في مجلس الوزراء قبل مناقشة “آلية العمل”. بين هذا الموقف، والتصريحات التي أطلقها خلال اليومين الماضيين وزير البيئة محمد المشنوق، تستمر المشكلة، والمواطن الذي يتخبط فيها ويعانيها، لا تهمه البيانات والتصريحات، وقد يكون مضمون بعضها مقنعاً في مكان ما، يهمه حل المشكلة دون إغراقه في التفاصيل والتقنيات.
وسط هذه الأجواء العابقة بمناخ تراكم النفايات، يبدو واضحاً أن المواطن في لبنان، يكاد أن يكون الوحيد في العالم الذي يعاني مشكلات يومية مزمنة وطارئة، دون أن يبدي أي تحرّك!
هل هو الاحباط والاستكانة والاستسلام واليأس؟ أم التبعية التامة وانتظار الأوامر؟
المشكلة واحدة، النفايات لا طائفية ولا مذهبية ولا دين لها، وتستحق من الطبقة السياسية وممثليها في الحكومة – الحكومات الاتحاد حولها ومعالجتها!
وأما الحلول التي اقترحها وزير البيئة ومنها إنشاء محرقة أو محرقتين للنفايات تولدان الكهرباء في الوقت نفسه، فلا بأس بها، ولكن السؤال البديهي هنا: لماذا استمرت المشكلة دون حل قبل انتهاء المهلة الممددة والمحددة للعمل في مطمر الناعمة؟
لئن يكن من غير الانصاف تحميل الوزير الحالي وحده وزر المشكلة المتفاقمة على مر الحكومات ووزراء البيئة، فإن أقل ما يقال في هذه المرحلة، أن المشكلات الاستثنائية تعالج بإجراءات عادية وأحياناً أقل من عادية، وكل ذلك بفضل الحكومات المتوالدة داخل الحكومة…
وأطرف ما في هذا الزمن أن رؤساء كتل نيابية مشاركة في الحكومة، ووزراء يمثلونهم فيها، يستهلون تصريحاتهم بمطالبة الحكومة وبعبارة: على الحكومة أن تعالج المشكلة وتتخذ الاجراءات الكفيلة بحل مشكلة النفايات أو غيرها، وكأنهم من عالم آخر لا علاقة له بالحكومة. يطالبهم المواطن فيطالبونه، ويشكو لهم فيزايدون عليه في الشكوى…
إنه زمن التمديد والهروب إلى الأمام!