الكلام الذي أطلقه ممثل الولايات المتحدة الاميركية برايان هوك حيال ايران، ربما يختصر في المعنى السياسي الشروع في مرحلة «قانون قيصر». هوك قال انّ واشنطن تود عَقد اجتماع مباشر مع طهران للبحث في تبادل السجناء، كما تريد ان يفرض مجلس الامن الدولي حظر أسلحة الى أجل غير مسمّى على إيران.
هي سياسة العصا والجزرة، ذلك انّه من البساطة، لا بل السذاجة، الاعتقاد بأنّ جلوس وفدين أميركي وإيراني حول طاولة واحدة سينحصر فقط في ملف تبادل السجناء.
كما انّ تلويح مجلس الامن بعقوبات تحت عنوان «حظر الاسلحة» لا يعني فقط قطاع الاسلحة من دون تأثيرات مباشرة على الجوانب الحياتية والمصالح السياسية الايرانية.
في اختصار، فإنّ واشنطن تقول للمسؤولين الايرانيين تعالوا لننفذ صفقة التفاوض الآن وفق الشروط الحالية، فيما يبدو انّ طهران التي تضع هذا الاحتمال موضع الاحتمال الجدي، تفضّل التَريّث الى ما بعد الانتخابات الاميركية لعلّ المفاجآت تأتي بالديموقراطيين الى البيت الابيض ما يجعل شروط التفاوض أفضل لإيران.
ففي وقت سابق كان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وعقب الافراج عن الجندي السابق في البحرية الاميركية مايكل وايت، قال انه يبدو أنّ التوصّل الى اتفاق بين الولايات المتحدة الاميركية وايران ممكن، ولكنه دعا حكام ايران الى عدم انتظار الانتخابات الاميركية لإبرام صفقة ضخمة «لأنني سأفوز». وكانت عملية تبادل السجناء قد شملت ايضاً إطلاق العالِم الايراني مجيد طاهري.
وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف عَلّق يومها داعياً الى تعميم تجربة تبادل السجناء الاخيرة لتشمل جميع السجناء بلا انتقائية. وتفسير كلام ظريف هنا واضح فهو تَعمّدَ فتح الباب «نصف فتحة».
في الواقع، إنّ «قانون قيصر»، والذي بدأت مرحلته الاولى فعلياً، يدخل في إطار تشديد الضغط على ايران من خلال حلفائها، اي الرئيس السوري و»حزب الله»، وهو يدخل ايضاً في إطار التقاط أوراق تفاوض جديدة ورسم الخطوط العريضة لخريطة النفوذ الجديدة في المنطقة.
لا حاجة الى التكرار أنّ «قانون قيصر»، والذي وقّعه الرئيس الاميركي، يحظى بتأييد الحزبين الجمهوري والديموقراطي. وهو يستهدف النظام السوري كما يستهدف «حزب الله» من خلال إجباره على الانكفاء من سوريا، وهنا النقطة الأهم، الضغط على الشريان البري الاساسي والفائق الاهمية والذي يربط ايران بـ«حزب الله»، وهو كان احد أبرز وأهم أهداف تدخّل «حزب الله» وايران في سوريا. بالنسبة الى أهداف «قيصر» السورية، فإنّ الاسد نجح في استعادة السيطرة على معظم البلاد بدعم إيراني وروسي واضح. وفي الطريق الى إعادة انتخاب الاسد للرئاسة السورية السنة المقبلة، اندفعت موسكو سعياً لتأمين عودة دمشق الى الحظيرة الدولية، وتمويل اعادة الاعمار، فيما تمّ وَضع مشاريع المفاوضات الداخلية وإنتاج صيغة حكم جديدة جانباً.
وجاء «قانون قيصر» ليطيح هذه الفرضية. ما يعني أنّ قانون قيصر هو بديل عن استثمار الانتصارالعسكري للاستغناء عن مسار الامم المتحدة، وذلك بمنع الاستثمارات وخطط إعادة الاعمار. ففي عام 2019 على سبيل المثال، شاركَ وفد إماراتي كبير في معرض دمشق التجاري الدولي السنوي وفي إطار استكمال خطة إماراتية حيال سوريا بترسيخ الحضور الخليجي للتوازن مع النفوذ الايراني من جهة ومساعدة دمشق على صَد التغلغل التركي على الساحة السورية من جهة ثانية. وتردّد بعدها انّ مستثمرين إماراتيين وخليجيين حصلوا على تراخيص عمل في قطاعي البناء والسياحة.
والواضح انّ كل ذلك حصل بعدما بات واضحاً ومعلناً موقف واشنطن التي لم تعد تتحدث عن إزاحة الاسد، بل عن تغيير سلوك نظامه.
لذلك عمدت واشنطن لاحقاً الى فرملة الاندفاعة الخليجية وإصدار «قانون قيصر» تمهيداً لضمان الاتفاق الكامل حيال مستقبل تركيبة الحكم في سوريا وقبل الوصول الى الانتخابات الرئاسية السورية.
لكن الاهم بالنسبة الى لبنان هو التأثيرات على الواقع اللبناني، فالواضح انّ من اهم بنود القانون قطاع النفط والتهريب الحاصل عبر الحدود. وبالتالي، قد لا يكون مُبالغ فيه اذا قلنا انّ من الاهداف الاساسية لقانون قيصر إقفال خطوط التهريب عند الحدود البرية، ولاحقاً ترسيم الحدود وحسم مناطق التداخل والامساك بالحدود جيداً. إلّا أنّ «قانون قيصر» لا يستهدف فقط الجانب التجاري مع النظام السوري لكن ايضاً الاتفاقات العسكرية وهيئة التنسيق، ومنها المجلس الاعلى اللبناني ـ السوري القائم منذ العام 1991، والاتفاقات الامنية. ما يعني انّ قانون قيصر سيؤدي الى إعادة النظر في المعاهدات بين البلدين.
والأهم انه في مرحلة لاحقة سيفتح هذا القانون الطريق امام طرح القرارات الدولية 1559 و1701، ومن خلالها بطبيعة الحال ترسيم الحدود اللبنانية البرية الجنوبية كما البحرية.
حتى الآن لم تكشف واشنطن بعد عن طبيعة عقوباتها في حال خرق بنود القرار. ولهذا تفسيره. فالمسؤولون الاميركيون لا يتوقعون التزاماً لبنانياً كاملاً وصارماً فورياً بالقانون، نظراً لتداخل وترابط اقتصاد لبنان وسوريا واعتياد اللبنانيين كما السوريين على الحدود المفتوحة والمصالح السياسية التي يستفيد منها «حزب الله» في شكل أساسي ومباشر.
لكنّ هذا التطبيق سيتدرّج وفق مراحل تصاعدية، ذلك انّ واشنطن تدرك جيداً الاهمية الفائقة «للاوكسيجين» الذي يتنفّسه «حزب الله» من خلال الطريق البرية. واستطراداً، فإنّ الاستنتاج بأنّ ثمة مفاوضات ستحصل في الكواليس وعبر القنوات الموثوقة، والتي ستتولاها ايران مع واشنطن لإيجاد البدائل التي ستجمع بين تأمين المصالح وفي الوقت نفسه ضمان ضبط الحدود. وهو ربما ما يعوّل عليه البيت الابيض لدفع ايران في اتجاه المفاوضات قبل الانتخابات الاميركية، وفق ما صرّح به ترامب.
وليس بعيداً ما يجري في محافظة ديالى العراقية عمّا هو مطروح للحدود اللبنانية – السورية. ففي هذه المحافظة العراقية تمّ إرسال قوات الجيش على وجه السرعة بسبب العمليات المتتالية التي ينفذها تنظيم «داعش»، مما أدى الى تدهور أمني خطير قد يُخرج المحافظة عن السلطة العراقية الشرعية. ما يعني انّ لقانون قيصر أهدافه السياسية الكبيرة انسجاماً مع رسم خريطة النفوذ الجديدة في المنطقة. ومعه يصح وصف المرحلة بـ»سايكس – بيكو» جديدة ولكن على مستوى تغيير الخريطة الجيوسياسية وليس الخريطة الحدودية المعروفة.
البعض يقول انّ واشنطن التي تُفرِط في استخدام سلاح العقوبات قد تدفع الى نتائج سلبية او معاكسة، ذلك انّ 80 % من السوريين يعيشون تحت خط الفقر فيما أكثر من نصف اللبنانيين باتوا فقراء، وانّ تطبيق قانون قيصر سيؤدي الى مزيد من تآكل قدرتهم الشرائية وتراجع اكبر في فرَص العمل. وربما لذلك ايضاً لم يلحظ النص الاولي للقانون الاستثناءات المطلوبة، ذلك انّ هنالك من يتحدث عن ملحق لا بد ان يصدر ويحدد استثناء كل انواع التبادل التجاري للبنان، والتي تشكل سوريا ممراً برياً له الى أسواق الشرق الاوسط والخليج.
الواضح اذاً وفق كل ما سبق انّ القانون ما يزال في مرحلته الاولى، وانّ هنالك تدرّجاً في تطبيقه سيتناغم مع حركة موازية في الكواليس لتأمين تفاهمات مطلوبة. والأهم انّ قانون قيصر يشكل ممراً سياسياً الى الواقع في جنوب لبنان، ومفتاحاً لتعقيدات صندوق النقد الدولي.
يبقى أن نشير الى همس في الكواليس الديبلوماسية حول دور سيظهر لفرنسا في لبنان وسوريا، وانّ التفاهمات حيال ذلك وبين باريس وواشنطن قطعت مسافة كبيرة.