السياسات الخاطئة لها ثمن تدفعه الشعوب عادة؛ لأن حظها التعيس شاء أن تعيش في قبضة أنظمة وحكومات تدير تلك السياسات. في أنظمة كهذه تحسب «الانتصارات» بحساب قدرة النظام على البقاء، بصرف النظر عن قدرة الشعب على تحمل المعاناة.
الشعب السوري، أو من بقي منه، مهدد الآن بدفع ثمن يمكن أن يوازي ما دفعه على مدى السنوات التسع الماضية. «قانون قيصر» الأميركي الجديد سوف يشدد القبضة على اقتصاد النظام لإرغامه على تطبيق القرارات الدولية، وخاصة القرار رقم 2254 الذي يدعو إلى قيام حكومة انتقالية وعملية تغيير سياسي سلمي للسلطة. وخيار السوريين بين مصيبتين: الخضوع لظلم النظام الجائر، مع ما يرافق ذلك من قتل وظلم وتجويع، أو مواجهة آثار العقوبات على أمل أن يستعيد النظام رشده، أو يتم إرغامه على الاستسلام أمام الضغط الشعبي والموقف الصارم لأكثرية القوى الدولية.
على الجانب الآخر من الحدود، يواجه اللبنانيون المصير الحالك نفسه. بلد محاصر بضائقته المالية من جهة وبهيمنة «حزب الله» على قراره السياسي من جهة أخرى. والتلازم بين الأمرين ما عاد خافياً إلا على من لا يريد أن يبصر هذه الحقيقة بين اللبنانيين. صحيح أن جانباً من الأزمة المالية يعود إلى النهب المنظم للخزينة العامة والفساد المستشري، لكن الجانب الآخر يتعلق بالربط القائم بين موارد البلدين، من خلال التهريب الجاري عبر الحدود لمواد أساسية ممولة من المصرف المركزي اللبناني، تستنزف احتياطه النقدي، من دون أي قدرة للدولة على منعه، في ظل عجزها المعروف. تضاف إلى ذلك السحوبات الجارية لودائع متمولين سوريين من المصارف اللبنانية، في حين يعجز المودعون اللبنانيون عن سحب الحد الأدنى من أموالهم.
غير أن الأهم من ذلك أن العقوبات الجديدة على النظام السوري سوف تزيد صعوبات حصول الحكومة اللبنانية على المساعدة التي تحتاج إليها من صندوق النقد الدولي؛ نظراً لإدراك المسؤولين في الصندوق والقوى الدولية النافذة التي تتحكم في قرارهم، لمدى ترابط المصالح بين عدد من المسؤولين في الدولة وكبار السياسيين مع أركان النظام السوري، ما يبقي هؤلاء المسؤولين تحت عين المراقبة الأميركية.
وهكذا، فالقاعدة التي وضعها الرئيس الراحل حافظ الأسد لتصوره للشراكة اللبنانية – السورية «شعب واحد في بلدين» تتجلى الآن بأبهى صورها. «الشعب الواحد» يواجه الضائقة المالية ذاتها. كما يدفع ثمن «انتصار» محور «الممانعة».
لا يمكن تقدير حجم الانقلاب الذي سوف يحدثه تطبيق العقوبات الأميركية الجديدة، إلا من خلال رد الفعل العنيف للذين سيتضررون منها: الإعلام الرسمي السوري اعتبر العقوبات «مخالفة للقانون الدولي» و«شكلاً جديداً من أشكال الإرهاب»، وبنتيجة حرصه الفائق على معاناة السوريين، أضاف أن هذه العقوبات ستفاقم تلك المعاناة.
أما الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، فقد أدرك أن معركة العقوبات ستكون قاسية هذه المرة، وستهدد قدرته على الدفاع عن سلاحه، كما ستلحق الأذى بقاعدته الشعبية، فكان التصعيد الاستثنائي الذي سمعناه على لسانه قبل بضعة أيام: سنقتل أي طرف يضعنا أمام خيارين، القتل بالسلاح أو القتل بالجوع. سيبقى السلاح بأيدينا ونحن سنقتلكم.
حاول نظام بشار الأسد، خصوصاً بعد إنقاذه على يد التدخل الروسي في الحرب بعد سنة 2015، الإيحاء بأنه «انتصر» على ما وصفها بـ«المؤامرة الكونية». لم يكن مهماً بالنسبة إليه أن ثمن «الانتصار» المزعوم كان مقتل ما لا يقل عن 300 ألف سوري، وتدمير المدن السورية، وتهجير نصف السكان. المهم كان بقاء بشار في قصر المهاجرين.
كثيرون، وليس فقط من حلفاء النظام، أخذوا يروجون لمقولة «الانتصار» هذه. كثيرون من سياسيين ورجال أعمال عرب وأجانب صوّبوا عيونهم وجيوبهم باتجاه المساهمة في إعادة إعمار سوريا. مشاريع مغرية جرى تقديرها بما لا يقل عن 400 مليار دولار كانت بالانتظار. الغزل بقدرة بشار على البقاء تجاوز كل التعابير الانتهازية. ولم يحسب أحد حساب الجرائم والفظائع التي ارتكبت على الطريق.
العقوبات التي يواجهها النظام السوري وحلفاؤه اليوم تشكل صدمة هدفها إيقاظ الجميع من الوهم الذي كانوا يعيشون فيه. نظام بشار الأسد يواجه ساحة حساب الآن، كما لم يواجه سابقاً، ومع أن من الحصافة عدم الاستعجال في توقعات سريعة بأثر العقوبات على النظام، فالأكيد أن وسائل الدعم التي يعتمد عليها، وخصوصاً تلك الآتية من موسكو وطهران، ما عادت تنفع في وجه الضائقة الاقتصادية والحصار الذي سيشتد ويطال كل المتعاملين معه، وخصوصاً أن هؤلاء «الداعمين» يبحثون عمن يدعمهم؛ إذ إن أحوالهم ليست أفضل كثيراً من أحوال حاكم دمشق.
مرحلة جديدة تدخلها الأزمة السورية مع العقوبات الأميركية الجديدة. والرهان على أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين «استسلموا» أمام «انتصار بشار» تبين أنه كان رهاناً في غير محله. فالعقوبات التي سوف يواجهها النظام السوري وحلفاؤه في المرحلة المقبلة هي الأقسى مقارنة بما واجهه خلال السنوات التسع الماضية.
ومع أن نظام الأسد وأركانه المحيطين به من سياسيين وعسكريين يخضعون حالياً لعقوبات أدّت إلى تجميد أصول للدولة ولمئات الشركات والأفراد، فضلاً عن منع الأميركيين من التعامل مع الشركات ورجال الأعمال السوريين، فإن العقوبات الجديدة سوف تطال كل الأنظمة والكيانات التي تتعامل أو تفكر في التعامل مع النظام السوري؛ ما سوف يدفعها إلى إعادة حساباتها وتقدير الكلفة العالية التي تترتب على دعم هذا النظام.