IMLebanon

«القيصر» راسم المسارات

«القيصر» فلاديمير بوتين، أصبح «راسم المسارات» في سوريا. غياب سياسة «ترامبية» محددة وواضحة، حول دوائر النار في سوريا والعراق واليمن، رغم مضي أكثر من أربعين يوماً على تسلّم الرئيس المُنتخب دونالد ترامب السلطة والانتقال إلى البيت الأبيض، رفع رصيد «القيصر» خصوصاً في سوريا، وجعل منه «الملك» على رقعة الشطرنج، الذي يقاتل الجميع تحت «إمرته» ومن أجل «حمايته».

مقابلة ميخائيل بوغدانوف في «الحياة» وهو الخبير الأول والحقيقي بشؤون الشرق الأوسط في الإدارة الروسية أكدت أن موسكو تُبطن أكثر مما تُظهر حول سوريا والمنطقة، وأنها تعمل وفق «توزيع موسيقي» يأخذ في الاعتبار معرفة دقيقة بتفاصيل الميدان وقدرات وطاقات جميع القوى المنخرطة خصوصاً الإقليمية منها.

موسكو وضعت قواعد لمسارات الحرب في سوريا، وهي ترى:

* «عدم انتصار طرف على طرف آخر».

* «أن تتصالح كل الأطراف مع بعضها البعض».

* الحل المثالي لسوريا هو «حل اللبننة» أي «لا غالب ولا مغلوب».

* انسحاب القوى الأجنبية (بما فيها الإيرانية) «يتم بطلب من القيادة الشرعية الناتجة من الحل».

هذا هو الإطار العام، أمّا التفاصيل التي تكمن «الشياطين» فيها، فإنها خاضعة للمفاوضات وبطبيعة الحال لموازين القوى التي تصيغها المعارك والمواجهات التي يدفع ثمنها الشعب السوري قبل الآخرين. حتى الآن تبدو القوى المتحاربة مباشرة أو بالوكالة، وكأنها توصّلت إلى خلاصة أساسية وهي: «أن لا أحد قادر على الانتصار مهما كابر وتمنّع».

طموحات موسكو على قدر حجمها كقوة دولية تناطح الولايات المتحدة الأميركية، للعودة إلى ثنائية وربما ثلاثية (مع الصين) في إدارة العالم. لذلك تتجاوز موسكو في إدارتها للمسارات في سوريا، سوريا نفسها. «القيصر» ضَمِنَ وجوداً لفترة 99 عاماً مع القاعدتين الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس بموجب اتفاقات مُلزمة للنظام ولورثته. لكن «القيصر» رغم قوته وهيمنته على «رسم المسارات»، يبقى «ضعيفاً» لأنه بحاجة للترويكا المشكّلة من الولايات المتحدة الأميركية وإيران، بنسب مختلفة.

يعترف بوغدانوف بصراحة أن الرئيس بوتين مستعد للذهاب إلى أي مكان لملاقاة الرئيس ترامب والتباحث معه حول شؤون وشجون العالم. بلا شك أصيب بوتين بصدمة قوية بسبب تطوّر الأوضاع، التي أنتجت تهديد ترامب بـ«ووترغيت» وحالت بين الانطلاق نحو «شراكة» أميركية – روسية. في أساس كل ذلك أن المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركية رفضتا مثل هذه «الشراكة». من دون تفاهم أميركي – روسي، لا يمكن لـ«القيصر» العمل بحرّية، سيبقى دائماً مقيّداً بالعمل تحت «سقف» الموقف الأميركي.

أيضاً ومن وقائع الساحة السورية، أن المرشد آية الله علي خامنئي طلب العون من «القيصر» فتجاوب معه بحدود، وهو حالياً ينزلق بسرعة نحو التدخّل البرّي، كما حصل في تحرير تدمر من «داعش». لكن إذا كان المرشد بحاجة لـ«القيصر» ولا يمكنه التحرّك والصمود من دون الغطاء الجوّي الروسي، فإن «القيصر» بحاجة أيضاً للمرشد، لأنه من دون القوات البرّية المشكّلة من جنرالات «الحرس الثوري» و«حزب الله» والميليشيات الشيعية، لا يمكنه ترجمة مفاعيل القصف الجوّي ميدانياً.

أمام هذا الواقع الصعب، أدركت موسكو أن ما كانت تخطط له، بتدخّل سريع يحسم الوضع لصالحها، مجرّد حلم ليلة صيف، وأن الواقع الميداني يؤشّر إلى إمكانية «أفغنة» الحرب، لإضعافها وإسقاط حلمها في إنتاج ثنائية متكاملة مع واشنطن في إدارة العالم، لذلك وضمن تناقضات الحالة السورية، فإن موسكو تريد الانسحاب ولكنها غير قادرة عليه، في حين أن طهران تريد الاستمرار والانتشار في سوريا، وهي غير قادرة عليها.

أيضاً، ضمن التناقضات المتصاعدة من الميدان السوري، أنه في الوقت الذي تريد كل من موسكو وطهران التمدّد في سوريا وتأكيد تواجدهما الطويل، أن الأولى التي تعرف جيداً الشرق الأوسط وتحديداً سوريا، لا تريد أن تجلس من جديد في حقل من «الصبّار». لذلك تعمل على تجميع الأرباح، لاستثمارها في تحقيق «مصالحة عربية – إسرائيلية على قاعدة المبادرة العربية»، وذلك في «مؤتمر عام يضم كل القوى المعنية بالصراع العربي – الإسرائيلي».

أمّا طهران، فإنها تعمل على تثبيت مواقعها في سوريا، لتنجح في نشر نفوذها الإقليمي لاستثماره ايديولوجياً. إذ تصبح سوريا ولبنان جبهة واحدة ضدّ إسرائيل، بدلاً من أن تكون سوريا ممراً للسلاح إلى «حزب الله» في لبنان. تشكُّل هذه الجبهة، يمنح إيران حضوراً شعبياً وفكرياً وفي الوقت نفسه يقيم «خط دفاع» قوياً عن إيران بعيداً عن حدودها. مثلما أن موسكو مضطرة الى معرفة أطر السياسة الأميركية منها، فإن إيران مضطرة الى معرفة أطر السياسة التركية منها. سوريا تحوّلت إلى مختبر ميداني لكل ذلك. طهران التي كما أنقرة لا تريد الاشتباك ولو بالوكالة تعمل على «تبريد» المواجهات التي «وتّرت العلاقات على مستوى عالٍ»، حسب التعبير الإيراني الرسمي. القمّة التي جمعت الرئيسَين التركي رجب طيب اردوغان وحسن روحاني عملت على تخفيف الخلافات من دون «تسويتها نهائياً» لأن الخلاف حول سوريا ضخم وعميق جداً.

مهما استعجلت موسكو الحل في سوريا، فإنه ما زال بعيداً جداً. لهذا مَن هو قوي اليوم قد يصبح غداً ضعيفاً، والعكس صحيح. المأساة أن الشعب السوري سيستمر في دفع ضريبة الدم والمزيد من الخسائر الاقتصادية التي تتطلب لتعويضها 400 مليار دولار حتى الآن.. والقادم أعظم!