روسيا لا تريد خسارة دول الخليج وفي الوقت نفسه تتحالف بحميمية مع إيران، ولا تريد القتال من أجل الأسد لكنه وحده الذي يضمن مصالحها، ولا ترغب في خسارة العلاقات الاقتصادية مع تركيا ولكنها في الوقت نفسه تريد إرهاب تركيا لدفعها للانكفاء، لا تريد استعداء الولايات المتحدة، لكنها في الوقت نفسه تحاول اللعب على خطوط نفوذها في المنطقة، تبني علاقات أمنية مع اسرائيل وتمنحها الصلاحية لاستهداف ما يثير شكوكها في الجولان وعلى خط بيروت ودمشق وبنفس الوقت يشكّل حزب الله مكوّناً مهماً في حربها السورية، ويجيّش بوتين الكنيسة لمباركة حربه ثم يصر على أن حربه ليست دينية؟
وسط هذه الخريطة المضطربة يتحرك فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط المعقد والمليء بالمتناقضات، ويحاول العبور من هذه الخريطة إلى المياه الدافئة والنفوذ والاعتراف العالمي بقوته والحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول المنطقة؟ وحتى ما يسمى بالحلف الرباعي الذي أسسه لا يذهب إلى توصيفه حلفاً مناهضاً للأطراف الأخرى بل نواة لحلف يطالب أن تلتحق جميع الأطراف به لنجاعته في الحرب على السوريين وجزء كبير من سكان المنطقة!
هل ثمة رؤية تسطيحية للواقع الشرق أوسطي أكثر من تلك التي يطرحها بوتين؟ بكل الاحوال هذه الرؤية تندرج في إطار عالم المعجزات والأساطير التي كان قد وعد بتحقيقها، وهي لا شك نابعة من رؤيته الخرافية لشخصيته القيصرية بالدرجة الاولى ومن اوهامه عن قدرة إرادته في التحدي وإعادة صناعة الواقع مثلما يرغب ويتمنى.
لا شك أن بوتين يبدو كمن جاء ليفتح باباً مقفلاً بإحكام بمفاتيح أقل ما يقال عنها إنها غير صلبة بما فيه الكفاية، جاء يحلم بإعادة هندسة الشرق الأوسط والقضاء على الفصائل السورية المعارضة وإخضاع الدول الإقليمية وإقناع الدول الكبرى بأحقيته في حصة من مناطق النفوذ والسيطرة على خطوط نقل الغاز والنفط ومحاصرة أوروبا من البحر الأبيض المتوسط والنفاذ إلى المحيط الأطلسي وحماية الخاصرة الجنوبية لروسيا، وربما ثمة أهداف أخرى لم يكتشفها المراقبون بعد. جاء يحقق كل ذلك ببضع عشرات طائرات السوخوي نصفها محدّث والنصف الآخر من النماذج التي ثبت عدم فعاليتها، وتسبقها سمعة عدم الدقة في التصويب، ويرفد هذا الأسطول المتواضع بضع مئات من الجنود جرى تدريبهم وتجريبهم على عجل في أوكرانيا، ويجر خلفه اقتصاداً يترنح تحت وطأة التضخم والمديونية والعقوبات الغربية وانخفاض أسعار الطاقة المورد الأساس لدولته! ولعل الأكثر دهاءً من كل ذلك مراهنة بوتين في خطوته تلك على قوّة استهلكتها الحرب السورية وباتت بحاجة لمن ينقذها» أذرع إيران»! كيف لم ينتبه القيصر إلى ان هذه القوى لو كان بإمكانها أن تنفع أحداً لنفعت نفسها ولما طار قائدها قاسم سليماني تحت جنح الظلام إلى موسكو مستنجداً الفزعة!
كيف لم ينتبه بوتين إلى حقيقة أن الحرب التي تجري في سورية منذ خمس سنوات هي نمط من الحروب المعقّدة جداً، والسر في تعقيدها هو تراكب السياسي بالديني بالاجتماعي بالاقتصادي، وتدامج كل هذه العناصر في توليفة واحدة لتتشكل منها جملة محركات وليس محركاً واحداً، بما يجعل كل عنصر من عناصر هذه الحرب أزمة بحد ذاته وبما يجعل أيضاً كل بقعة جغرافية تحتاج لحروب وجولات صراع ومساومة وعدداً من المؤتمرات السويسرية الكفيلة باستهلاك كامل طاقة المعاندة والمماحكة التي يمتلكها بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف.
كل المحاولات السابقة، قبل أن يقرر بوتين أن يشمّر عن زنوده ويقول أنا لها، كانت تصطدم بعقدة عدم القدرة على تفكيك عقد الأزمة التي تراكمت وصارت تشكل بنية أزموية متكاملة، وكان المحور الأساس في بنية هذه التعقيدات مصير بشار الأسد ونظامه، ومن المفارقة أن بوتين، بإمكاناته العسكرية المتواضعة والإستراتيجية غير الفاعلة يأتي اليوم لتثبيت هذه العقدة، بقاء بشار الأسد في السلطة وإستمرار عمل المنظومة التي يرأسها بذريعة أنها تشكل مؤسسات الدولة! علماً أن هذه المنظومة «أجهزة الأمن وبقايا الجيش»، هي نفسها التي نخرت الأعطاب جسدها وتحوّلت إلى هيكلية مافياوية إن في شكلها التنظيمي أو في طبيعة أدائها، بما يستحيل معه إعادة ترميمها وتفعيلها مرّة جديدة حتى بوصفها ماكينة للقمع وإدامة الاستبداد.
على حصان من خشب يأتي بوتين إلى صحارى الشرق الأوسط يرعد ويزبد، ومن على ظهر هذا الحصان المقدّر أن تغوص قدماه سريعاً في الرمل يريد بوتين مرافقة القوى الكبرى لصناعة مصير العالم. بالأمس كان يتوسل فرنسا بيعه سفينتين حربيتين، ولم تزل الشركات الألمانية لم تنه عقود إصلاح منظومة الاتصالات داخل جيشه، وتنفذ إسرائيل عقد تحديث بعض الأليات العسكرية الروسية، واليوم تتطاير صواريخه التي لم يستطع ضبطها على الأرض الإيرانية ولا أحد يعرف ما إذا كانت الباقية قد سقطت في العراق أو في الأرض الروسية نفسها، مع أن المسافة بين قواعد الإطلاق والهدف نفسه لا تتجاوز الألف وخمسئة كيلو متر، وهي أقل المسافات بالنسبة لمدى الصواريخ الإستراتيجية، بما يذكرنا بالصواريخ الإيرانية التي كان يطلقها حزب الله على إسرائيل ولا تصيب إلا المناطق الفارغة للمفارقة؟
على جسد أهل الرستن وتلبيسة العزل، والقتلى الذين ينتظرون رغيف الخبز في فرن الغنطو، وقصف أطفال مدرسة طير معلا، يحاول القيصر بوتين إعادة إصلاح آليات عظمة إمبراطورية روسيا، ورغم مأساوية هذه النتائج ولا إنسانيتها ثمة من يرقب هذا التخبط ويستمتع به تماماً مثل مشاهدة فصل ساخر في مسرحية عنوانها: قيصر على حصان من خشب.