Site icon IMLebanon

حين يبحث اللبنانيون عن دواء و”بقعة ضوء” في القاهرة

 

ميترو وقطار وأحصنة وتضرّعات وبنى حديثة

 

 

من عاصمة ست الدنيا الى عاصمة أم الدنيا مسافة 586,51 كيلومتراً جوّاً، وهو ما يعادل في مسارات الفضاء ساعة زمنية واحدة، لكن، بين الإثنتين، فارق شاسع وهما اللتان عاشتا ثورة ميدان التحرير هناك، وثورة 17 تشرين بعد ثورة الأرز، هنا. وبين هنا وهناك تحقيق ميداني نسمع فيه تضرعات هناك: «”الله يحمي السيسي”»، وهنا: “الله ينجّينا”».

 

أكثر ما قد يُضحك المغادر مطار رفيق الحريري الدولي اليوم «مانوكان»، رُكن في زاوية أحد المحال، كُتب عليه: ردني الى بلادي. مطارنا يتغيّر يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، ليُشبه الوطن الغائر في عتمة دامسة وبؤس وقلق على المصير. هنا، في المطار الدولي، كما في بيروتنا ومركباتنا، ما يخرب لا قدرة لهم، كما لنا، على إعادة تصليحه. عربات جرّ الأمتعة بات استخدامها أصعب من جرّ الأمتعة بلا عربة. فالدواليب، دواليب كل شيء في الحياة، بحاجة الى «تزييت» لتعود وتمشي، لكن «الزيت»، كما تعلمون، أصبح باهظ الثمن، و»الزيت والقمح عمار البيت» هذا ما نسمعه في الأمثال الشعبية.

 

الأسعار نار في المنطقة الحرة. الدخان أسعاره مضاعفة عما هي في سائر البلد. ومفهوم أن أسعار المنطقة الحرة في مطار بيروت هي الأرخص إحذفوه من قواميسكم. رائحة مجارير قريبة تفوح نعتاد عليها بعد مضي دقائق على وجودنا في حرم المطار. وكل المقولات في الأرجاء بوجوب ارتداء القناع لزوم كوفيد- 19 لا محل لها في الإعراب. إنكسر القرار في المطار.

 

يا قشطة يا بسبوسة

 

نطير نحو القاهرة. العاصمة المصرية باتت ملتقى كل الشعوب. مؤتمرات ولقاءات ومشاريع واستثمارات وسهر و»فرفشة» واقتصاد وإنماء ومشاريع حيوية وطرقات أصبحت أوتوسترادات بمسالك تتسع لخمسة خطوط في كل اتجاه. الحياة يوم إلك يوم عليك. مطار القاهرة الدولي يعجّ بالمسافرين. والإجراءات دائما مشددة. وسائقو سيارات الأجرة «يلتقطون» الركاب بأسلوبٍ مصري محبب: «لوين ستّ هانم؟… يا أفندي تفضل… يا ذوات… يا قشطة… يا بسبوسة…» هي لهجتهم التي يدلعون بها الزبائن. الأسعار هنا ايضا نار. والوافدون يساومون لكن يبقى سائقو سيارات الأجرة «أشطر». وكلفة الإنتقال من المطار الى قلب المدينة تزيد على 20 دولاراً أميركياً (وهو ما يساوي 370 جنيهاً تقريباً).

 

جمهورية مصر العربية «قامت من الموت». والسائقون يبدأون في الكلام عن «موطنهم» بلا سؤال. يتكلمون ولا ينتظرون ردوداً ولا يتوقعون تعليقات بل علامات تعجّب وإعجاب. يتكلمون عن العشوائيات التي تحولت الى مناطق ساحرة آسرة. يتكلمون عن الجسور التي شُيدت فوق نهر النيل بأقل من شهر واحد. يتكلمون عن الكهرباء التي لا تنقطع لحظة وعن مصر المضيئة التي تبيع كهرباء وعن صناعة السكر التي دُعمت أخيراً فبات هناك إكتفاء محلي وتصدير. ننصت إليهم بانتباه شديد فنشعر بدفق المشاعر التي يكنونها الى الرئيس عبد الفتاح السيسي ودعواتهم «الله يطول عمرو». هو يفتتح منذ أتى، بعد إطاحته الرئيس محمد مرسي، مشاريع يومية. وهو بحسب السائق مصطفى، المعروف بكتكوت، من داعمي كرم القدم. ويبدأ كتكوت، بأسلوبه الفكاهي، في الحديث عن الزمالك والأهلي والمنتخب الوطني الذي شارك في بطولة كأس الأمم الأفريقية وعن مونديال قطر 2022. نشعر بحماسته فنتحمس. أعاد السيسي الحماسة الى الكثيرين في تلك البلاد.

زحمة يا دنيا

 

يشعر اللبنانيون بمحبة المصريين بسرعة. المصريون ما إن يسمعوا بلهجة لبنانية حتى يبدأوا بتمتمة أغنية فيروز: مصر عادت شمسك الذهب/‏ تحمل الأرض وتغترب/‏ كتب النيل على شطه/‏ قصصاً بالحب تلتهب. هم يحبون لبنان ويتكلمون عنه بلهفة وأسى: لبنان أجمل ناس وبحر وجبل ولحمة نية وتبولة وجعيتا وحريصا ووديع الصافي… هنا، عند ذكر إسم الراحل الكبير، يسأل أحدهم مستوضحا: هل مات وديع الصافي؟

 

نمرّ امام بنك عودة. نشعر بقهر. نشعر بما فعلته بنا أياديهم كلهم وحصدناه نحن. هذا البنك تأسس في السوق المصري عام 2006 وانتشر في «أم الدنيا» من خلال 53 فرعاً. نسأل المصريين عن حاله اليوم؟ هو باع في كانون الثاني 2021 فروعه في مصر الى بنك أبو ظبي الأول الذي إستحوذ على مئة في المئة من رأسمال عودة ش.م.م (مصر)». نحزن لهذا الخبر من جديد وكأنه حصل للتوّ، وكأن لبنان بمؤسساته يباع قطعة قطعة، وذلك على الرغم من مرور عشرين شهراً على أفول جمهورية «عودة» في جمهورية مصر.

 

«زحمة يا دنيا زحمة». نتذكر ونحن نجول في بعض شوارع القاهرة الفرعية أغنية أحمد عدوية هذه. لكن، من مضى على آخر زيارة له الى مصر أكثر من أربعة أعوام، ستختلف عليه الصورة كثيراً. خفّت زحمة السير في الشوارع الرئيسية ودائما بفضل «السيسي باشا». نعبر الطرقات الرئيسية. نسلك الجسور. فتلفتنا زحمة غير إعتيادية. ثمة أسواق شعبية مكتظة لا مثيل لها في كل الدنيا باستثناء بلد المئة وخمسة ملايين نسمة.

 

نستقل الميترو. نعم في القاهرة ميترو وقطار وأحصنة تقل البشر ايضاً. نعم، أنشأت مصر ميترو أنفاق القاهرة في شهر أبريل 1989 وهو الأول في الإنشاء على المستوى العربي والأفريقي. نتذكر مقولات التغزل بلبنان ونتذكر قطاره المهترئ الذي لم يعد يوجد منه إلا بعض السكك المتقطعة المغطاة باليباس. ننزل الى الأنفاق. أسواق شعبية أيضا تحت وأفواج من البشر. سعر بطاقة الميترو 50 جنيهاً ويمكن تعبئتها والإنتقال بها بخمس جينيهات لكل وجهة. وهناك اماكن مخصصة للنساء وأخرى للرجال. والتلاصق كبير مثل مرطبان الكبيس. نتذكر كوفيد-19 فندرك التحدي الكبير الذي واجهته جمهورية مصر العربية في مواجهة وباء العصر. نتجه صوب حارة خان الخليلي والعتبة. نخرج من الميترو كمن خرج من يوم الحشر (قبل يوم القيامة)، لنجد أنفسنا في «حشر» آخر. بسطات على مدّ العين. ومصريون لهم أسلوبهم في البيع والشراء. وما نشتريه عند بسطة بمئة جنيه نجده في أخرى بعشرين. وباعة صغار يعرضون لفائف «سِيف الجلي» ينتشرون في كل مكان. مشايات وتي شيرتات و»بِكل» شعر وعباءات وشراشف وألبسة رياضية ولبن وتفاح بالعسل وغوافة وذرة مشوية وليمون طازج…وأناس مشلوحون على الطرقات يلتهمون ما تيسر من بقايا طعام، وحملة أكياس نايلون سوداء كبيرة مليئة بالبياضات… وأصوات تصدح: «نوتيلا بخمسين جنيه. عسل أسود بخمسين جنيه. جبنة فتة الكيلو بخمسين جنيه. وكيلو البط بخمسين جنيه…» ومحال كثيرة تبيع منتجات القوات المسلحة بأسعار مدعومة. نتجه الى خان الخليلي. نكاد نضيع في الزحمة.

 

خان الخليلي هو أحد أهم معالم القاهرة القديمة. فيه بازارات ومحلات ومطاعم شعبية. ندخل إليه من مدخل بجوار المسجد خان الخليلي الشهير وجامع الأزهر. يقال إن رأس الحسين بن علي دفن هنا. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جدده وأهله وأعاد إفتتاحه قبل شهر، في نيسان 2022. هو حرص على ترميم كل المساجد والكنائس في القاهرة. ندخل فنسمع كل الرجال «يلطشون» كل النساء. المصريون لديهم أسلوبهم في «التلطيش» ومن يجول بلا مساعدة من مواطن مصري قد يأكل الضرب بأسعار لا سقف لها. ومن يعلق في بسطة لن يكون قادراً على الخروج منها بلا شراء ما يحتاجه وما لا يحتاجه. والمفاصلة ضرورية دائماً. والسياح ولو «أكلوا الضرب» يبتسمون لتجربة التجول في سوق مليء بالحوانيت المتلاصقة، في إلفة شديدة، وبات الرقص الشرقي يملأ الشوارع. هنا مقهى نجيب محفوظ أيضا.

 

القطن بيحكي مصري. الإعلانات عن ذلك كثيرة، فالقطنيات في مصر تجذب المتسوّقين من كل العالم، غير أن أسعارها، لمن يهمه الأمر، أصبحت باهظة جداً قياساً إلى حالنا وأحوالنا التعِيسة.

 

لبنان والسودان

 

العودة الباكرة ضرورية عبر الميترو لمن يجهل طبيعة المكان كي لا يضيع. نعود الى الأوتوسترادات المشيدة حديثا. هي نقلة نوعية في تاريخ القاهرة الحديث حيث نصادف أناساً من كل الجنسيات. مصر تطورت كثيراً في حين أن لبنان تراجع كثيراً كثيراً. نصادف كثيراً من السودانيين هناك. السودان، الجارة الاقرب لمصر، تشبه بحسب أحد مواطنيها، نفس تجربة القهر التي يعيشها اللبنانيون. هناك أيضا ثورة وأمل، بالشارع فقط القادر على التغيير. هؤلاء يتحدثون عن التغيير الذي لن يبصر النور إلا بإرادة الشعوب و»مهما كبرت السلطة السودانية فصوت الشعب سيظل أقوى وأعلى». وهناك الشعب لن يساوم وما يريده هو العدالة ولا شيء آخر. يتحدث السودانيون عن كهرباء مفقودة ومياه مفقودة ودواء وإستشفاء وحياة مفقودين. وجعهم مثل وجعنا. أصبحنا مثلنا مثل أهالي السودان على أمل أن لا يساوم شارعنا أيضا. ماذا عن الحلّ بمنظورهم؟ يحاول الشعب هناك أن يأخذ زمام المبادرات الوطنية. برأيهم التكافل هو السبيل الوحيد اليوم في بلدهم الذي يفتقر بعض أناسه الى وجبات الطعام اليومية وكثير من أطفالهم يتجاوزون وجبات أساسية.

 

الصيدليات كثيرة في القاهرة لكن ليس كل ما يريده اللبناني يجده. هناك أدوية موازية وشبيهة. والأدوية التي يجدها اللبناني هناك تباع بأسعار تقترب الى سعرها بلبنان. أحدهم زودوه من لبنان بدواء هم بأمس الحاجة إليه واسمه «tecfidera» مقطوع في لبنان. وجده هناك بسعر 19 الف و500 جنيه وهو ما يعادل 1100 دولار أميركي. أخبر من طلبوه هاتفياً فبكوا.

 

أمور كثيرة يريدها المواطن المصري حصل عليها اليوم. وزارة الداخلية لديها 24 على 24 نقاط متنقلة تنجز معاملات المواطن المصري في أيام العطل. سيارات إسعاف موجودة على كل الطرقات والزوايا وفي الساحات. الشرطة موجودة دائما على الطرقات. يشعر الزائر حتما بأمان لم يكن من قبل. التحوّل كبير في مصر بعد الثورة. والشوارع مضيئة. ومن يحوم في طائرة تصعد أو تهبط يلاحظ أنوارا لم تكن من قبل. ومن يعد الى لبنان، قبل أن تهبط طائرته، يلاحظ أيضا عتمة وصلت الى مستويات قياسية. إحداهن، صارت تبحث عن لبنان خلال هبوط الطائرة مرددة: لبنان غير ظاهر. وكثيرون شاركوها رأيها.

 

هناك مصر وهنا لبنان. هناك ثار الناس في ميدان التحرير وهنا ثاروا في الساحات. هناك أصبحت الجمهورية جمهورية وهنا تحولت الى مزرعة بامتياز.