جسر جوي للمساعدات من “اللحم الحي” متواصل بقرار سياسي منذ 26 أسبوعاً مع حرص على الجيش
حين اجتمع وزير خارجية مصر سامح شكري مع رئيس البرلمان نبيه بري خلال زيارته التضامنية مع لبنان في 11 آب، بعد 5 أيام على انفجار المرفأ، حرص الأخير على شكر ضيفه على المساعدات التي تقدمها مصر للبلد لأن لها قيمة خاصة لأنكم تعطون من اللحم الحي، فأجابه الضيف المصري: “نقدمها ونتقاسم ما لدينا معكم لأن هناك قراراً سياسياً بدعم لبنان وبالاهتمام باستقراره”…
تقيم القاهرة جسراً جوياً مع بيروت على مدى 26 أسبوعاً حمل مواد بناء واحتياجات طبية وأغذية…
منذ انفجار 4 آب الكارثي. قبل أن تصل طائرة مساعدات الخميس 25 شباط إلى مطار بيروت كان جرى تحميلها في مصر مواد طبية للجيش اللبناني، استفسرت القيادة المعنية في الجيش المصري عن حمولتها فجاءها الجواب بأن فيها 10 أطنان مواد طبية، وبما أن حمولتها 16 طناً، طلبت إضافة 6 أطنان من المواد الغذائية للجيش قبل إقلاعها. فوجئ الجانب اللبناني حين حطت في بيروت بهذه الزيادة.
لا يقتصر الاهتمام المصري على هذا الكم من المساعدات، خصوصاً للجيش، الذي تراقب القاهرة حاجاته سواء العسكرية أو اليومية نظراً إلى اعتقادها بأنه يتأثر سلباً بالأزمة الاقتصادية المالية التي يمر فيها البلد وتحرص على ألا ينعكس ذلك على دوره في حفظ الاستقرار الأمني، بل يوازيه اهتمام بالوضع السياسي المضطرب الذي يرتب حركة مصرية داخلية سواء من السفير في بيروت ياسر علوي، أو في اتصالات القاهرة مع سائر الدول المعنية.
الشراكة مع مبادرة فرنسا
فهي أكدت مراراً أنها شريكة في مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمعالجة الأزمة السياسية الاقتصادية. وهذا كان واضحاً في مناسبات عدة بينها زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى باريس في 7 كانون الأول الماضي، وصولاً إلى اتخاذ الجانب المصري موقفاً متشدداً في الدعوة إلى تسريع تأليف الحكومة وبالنصائح لرئيس الحكومة المكلف ألا يقدم تنازلات جديدة في تشكيلها مع دعم موقفه الرافض للثلث المعطل.
3 أسس للموقف من أزمة لبنان
استند الموقف المصري إلى تقييم للوضع اللبناني في إطار إقليمي يقوم على 3 فرضيات أو أسس:
– الأزمة في لبنان ليست طارئة بل هي نتيجة تراكم لممارسات سابقة أطلقت الاحتجاجات الشعبية وصولاً إلى أن لبنان أمام خطر التدهور الاقتصادي الكبير الناجم عن التعطيل السياسي لسنوات. ويحتاج لبنان بالتالي إلى قطيعة مع الممارسات السابقة التي كرستها الحكومات السابقة عبر تركيبة الأثلاث في توزيع الحصص، والتعطيل عبر الثلث المعطل.
– إن هناك خطراً ضرب التيارات المعتدلة في الطوائف اللبنانية ليصبح التنافس داخلها بين الأكثر أصولية وتعصباً وطائفية والأكثر تطرفاً.
– للتطرف في لبنان مخاطر على الأمن القومي العربي لأنه يغذي التطرف في دول أخرى، ويتيح تدخل دول أخرى للإفادة منه. والمثل الأحدث بالنسبة إلى الديبلوماسية المصرية هو إدلب السورية حيث استفادت تركيا من حشر كل المجموعات المتطرفة فيها بحيث استطاعت تركيا نقل زهاء 8 آلاف مقاتل منها إلى ليبيا. وعين القاهرة على الوضع في منطقة الشمال اللبناني وطرابلس، حيث هو أكبر حجماً وديموغرافياً من إدلب السورية. واذا انتشر التطرف فيها نتيجة انهيار الوضع اللبناني، تصبح خزاناً للميليشيات التي يمكن ان تستخدمها قوى إقليمية كما فعلت تركيا، في دول أخرى، ما يزيد تخريب المنطقة برمتها.
التنسيق مع العراق والأردن
وليست هذه الأسس منعزلة عن رؤية ذات بعد استراتيجي تتعلق بحفظ الاستقرار في منطقة الهلال الخصيب والمشرق العربي، والتي أفضت إلى التنسيق الثلاثي بين مصر والعراق والأردن، والذي بدأ في العام 2019 في قمتين بين قادة الدول الثلاث، ثم تكرّس صيف العام الماضي بعد إنشاء ما سمي الصيغة السداسية للتنسيق، والتي تضم وزراء خارجية الدول الثلاث، ورؤساء المخابرات في كل منها، تجتمع دورياً لتقييم الوضع الإقليمي. ويهدف التنسيق الثلاثي إلى توفير حاضنة عربية للعراق وحاضنة للوضع اللبناني أيضاً، كمدخل لاستعادة التوازن إلى المشرق العربي.
الديبلوماسية المصرية من بين الدول الأكثر إلحاحاً في هذا السياق على وجوب قيام حكومة جديدة في لبنان تستوفي شرطين، الأول أن تكون مقبولة من الشارع اللبناني وبعيدة كلياً عن ممارسات المرحلة السابقة التي أفقدت المواطن أي ثقة بالدولة. والثاني أن تكون لها صدقية عند المجتمع الدولي وموثوقة منه كي يتشجع على تقديم المساعدات للبلد، عبر اتفاق هذه الحكومة مع صندوق النقد الدولي الذي يقود إلى تشجيع المانحين على المساعدة في إطار البرنامج الذي يكون جرى الاتفاق عليه مع الصندوق.
القلق من الفراغ والتلويح بفراغات مقبلة
المتابعة المصرية لتفاصيل الاتصالات من أجل تأليف الحكومة، تسببت بقلق كبير لدى القاهرة من إطالة أمد الفراغ الحكومي من جهة، ومن التلويح بفراغات مقبلة على صعيد البرلمان عندما تنتهي ولايته، وفي رئاسة الجمهورية عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، من جهة ثانية. وهذا القلق هو الذي دفع السفير علوي إلى القول بعد زيارة قام بها إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي في 21 كانون الثاني، إن “الفراغ جريمة وليس ورقة تفاوضية”، في إشارة منه إلى التكهنات بأن هدف تأخير الحكومة إبقاؤها ورقة تفاوضية في يد إيران في إطار الضغوط قبل المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. كما أن القلق من الفراغ يشمل بالنسبة إلى الجانب المصري الخشية من تدهور الأوضاع الأمنية ومن الانزلاق إلى فتنة طائفية ما دفع بالعلوي إلى القول إن اليد التي تريد افتعال فتنة مذهبية يجب أن تقطع.
تقدم القاهرة المساعدات الإنسانية من ضمن آلية موقتة لتمرير الفراغ الحاصل بأقل الخسائر، مع تشديدها على سرعة تأليف الحكومة بالمواصفات المطروحة، ومن دون أن تكون لأي فريق القدرة على تعطيل عملها. ومن الطبيعي ألا يقبل العقل المصري فكرة تعطيل الدولة، خصوصاً أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أطلق منذ أيلول 2016 في خطاب أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة الدعوة إلى قيام الدولة الوطنية الحديثة ذات التوجه العروبي، لاستعادة الاستقرار في الشرق الأوسط.
الدولة الوطنية والعروبة
والتشديد على العروبة ينطلق من القناعة بأن الدول العربية يجب ألا تكون ساحة تقاسم للنفوذ بين إيران وتركيا وإسرائيل، بل من الضروري أن تكون المنطقة العربية لأهلها، وتتعاون مع جيرانها، بشرط أن يمسك حكامها بقرار دولها كمنطلق للتعاون مع القوى الإقليمية. وتشمل هذه النظرة حرص “صيغة التنسيق السداسية” على التعاطي مع الشيعة في العراق كعرب وجزء من البنية الاجتماعية والسياسية للمنطقة، وكذلك في لبنان، وإدارة الظهر لهم، خصوصاً في العراق يعني دفعهم نحو حاضنة طائفية.
الواضح أن مصر كدولة إقليمية كبرى لا تتعاطى مع لبنان أو أي دولة عربية أخرى في شكل ظرفي، بل في إطار تصور استراتيجي يخدم أهدافاً بعيدة المدى… والحركة المصرية في لبنان جزء من تحرك إقليمي وليست معزولة. من مظاهر الدور الإقليمي النشط أن ضغوط القاهرة مطلع الصيف الماضي وتهديد السيسي بعبور الحدود إلى مدينة سرت الليبية، ساهم في الدفع نحو التسوية، قبل أسبوعين في ليبيا، والتي يفترض أن تؤدي إلى انسحاب تركيا منها. ودفع الدور المصري في إطار صيغة التنسيق السداسية مع العراق والأردن، إلى إعادة تحريك دور الجامعة العربية التي عقدت اجتماعاً خلال شباط للتشديد على حل الدولتين للقضية الفلسطينية، تحضيراً للحوار العربي مع الإدارة الأميركية الجديدة، وبالتزامن مع استضافة الحوار بين الفصائل الفلسطينية لتسريع خطوات المصالحة.
وليس اعتماد “منتدى شرق المتوسط للغاز” القاهرة مقراً له بعيداً من استعادة القاهرة دورها الإقليمي خصوصاً بالنسبة إلى سلعة حيوية كهذه، ستكون مصر مركزاً لتغويز ما يستخرج من مخزون غازي في البحر، مع ما يعنيه ذلك من آفاق اقتصادية واعدة.
بالنتيجة لا تقدم الدولة المصرية مساعدات للبنان كصدقة، فهي ليست من الدول الغنية، بل هي تقوم باستثمار سياسي والمساعدات إحدى أدواته، في إطار تصور استراتيجي لاستعادة المبادرة من الدول العربية الفاعلة.