Site icon IMLebanon

حساب الحقل والبيدر في إيران

 

القصة تروي أن إقطاعياً حاز أرضاً واسعة، وأنه جاء عليه يوم قرر فيه منح أوسع مساحة من أرضه، لمن يستطيع من الفرسان قطع المساحة إلى أبعد مسافة فيها!

وكان للإقطاعي شرط وحيد، وكان يضعه أمام كل فارس يقبل التحدي، وكان الشرط أن ينطلق الفارس في الأرض على ظهر حصان ثم يعود إلى نقطة البدء، وكان المطلوب منه أن يعود قبل غروب الشمس، فهذا هو الشرط الواضح الصريح الذي لا فصال فيه، فإن تأخر في طريق عودته عن لحظة الغروب ثانية واحدة، خسر الرهان بغير نقاش، ليتقدم فارس آخر ويجرب حظه بين الفرسان!

وكان الفرسان جميعاً يجربون حظوظهم، وكانوا يخسرون واحداً تلو الآخر، وكانت مشكلة كل واحد فيهم أنه لم يكن يضع حسابات العودة في الاعتبار، وكان كل فارس ينطلق راغباً في الوصول إلى آخر الأرض، وكان يلهب ظهر حصانه في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، وكان في غمرة الرغبة التي كانت تتملكه، ينسى أن التحدي الحقيقي الذي ينتظره، ليس الوصول إلى آخر مدى عند الأفق الممتد بلا نهاية، ولكن التحدي هو العودة إلى حيث بدأ، ولم تكن العودة المطلوبة منه مجرد عودة والسلام، ولكنها كانت مشروطة بأن تكون قبل مغرب الشمس، لا بعده، فإن خانه التوقيت عاد بلا شيء في يده!

ولم يكن أحد منهم ينتبه إلى أن عليه أن يحسب خطوات العودة، قبل أن يتحدى خطوات الذهاب ويقفز فوقها، ولا كان أحد منهم يلتفت إلى أن إغراءات طريق الذهاب يجب – مهما لمعت أمام عينيه – ألا تنسيه أن وراءه مشواراً سوف يكون عليه أن يقطعه في طريق الإياب، وأن عليه أن يفعل ذلك في موعد لا يقبل المساومة، وأن العبرة ليست في بلوغ الهدف، بقدر ما هي في الاحتفاظ به عند المحطة الأخيرة!

شيء من هذا تراه في سلوك حكومة الملالي في إيران، وهي تذهب متوسعة في محيط إقليمها من حولها، فتصل إلى لبنان تارة، وتلعب في داخل سوريا تارة ثانية، وتعبث على أرض العراق تارة ثالثة، وتمارس الجنون في اليمن تارة رابعة، وربما تفكر في عواصم أخرى، ثم تتناسى أن القضية أمامها ليست الوصول إلى هذه الدول، ولا التمدد في عواصمها، ولا التباهي بالقدرة على التحكم في سياساتها، لا ليست هذه هي القضية، ولكن القضية هي في القدرة على العودة الآمنة، إذا حانت لحظة الرجوع من هذه الدول كلها إلى طهران؛ حيث حدود الدولة الإيرانية الطبيعية، وحيث معالم خريطتها، وحيث ملامح تضاريسها، وحيث خطوط عرضها وطولها، التي لا بديل عن أن تكون هي فلك حركة الحكومة ومدارها في نطاقها!

ولا عودة آمنة إلا إذا أيقنت حكومة المرشد خامنئي، أن عليها أن تطوي صفحة الثورة في ذكرى مرور أربعين سنة على قيامها في فبراير (شباط) من هذا العام، وأن عليها أن تبدأ صفحة مغايرة هي صفحة الدولة، وأن الانتقال من صفحة الثورة إلى صفحة الدولة، لا يكون بالهرب من المأزق الذي تجد نفسها فيه حالياً، عبر أفكار هي وليدة ضغوط اللحظة عليها، ولكنه يكون بمراجعة مسيرة دامت أربعين عاماً، فلم تجلب سوى التوتر على مستوى الإقليم، ولم تثمر سوى المتاعب في حياة كل إيراني، ولم تكن إلا سنوات محذوفة من عمر المنطقة في سلامها، وفي أمنها، وفي قدرتها على توظيف مواردها لصالح أبنائها!

لقد أرسلت الخارجية الإيرانية مساعد وزيرها في جولة يزور خلالها ثلاث دول من دول الخليج، وفي كل محطة من المحطات الثلاث كان يبدو داعياً إلى التهدئة، وكان يظهر مروجاً للفكرة التي ألقاها وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وقت أن كان في العراق قبل أيام!

كان ظريف قد عرض استعداد بلاده لتوقيع معاهدة عدم اعتداء مع دول الخليج، وكانت هذه هي ربما المرة الأولى التي يعرض فيها فكرة كهذه، ولا أحد يعرف ما إذا كان قد عرضها تحت وطأة الضغط الهائل الذي تمارسه الولايات المتحدة هذه الأيام على صانع السياسة الإيرانية، أم أنه يعرضها عن قناعة بها، وعن رغبة حقيقية في أن تكون علاقة إيران بجيرانها علاقة سوية، تقوم على الإقرار بسيادة كل دولة جارة على أرضها، واحترام حقائق الجغرافيا التي لم تكن لدولة يد فيها؟!

لا أحد يعرف؛ لأن ظريف لم يشأ أن يعطي تفاصيل أكثر حول فكرته، ولم يذهب في اتجاه شرحها لأبعد من مجرد طرحها كعنوان لا يزال معلقاً في الهواء، دون أن يقف على أرضية صلبة تحمله، واللافت أنه لم يخرج شيء عن أي مستوى رسمي إيراني أعلى، يكشف بعضاً من غموض يكتنف هذه المعاهدة المقترحة، أو يضيء أبعادها، أو يتولى بالشرح حقيقة مراميها، باستثناء مستوى الخارجية طبعاً التي ربما ألقتها لتكون بالون اختبار، لا أكثر، أو لتكون نوعاً من السعي إلى تخفيف الضغوط الأميركية المتلاحقة، وبالذات ضغوط النفط والاقتصاد، التي يبدو أنها أرهقت الخزانة العامة الإيرانية كما لم ترهقها ضغوط من قبل!

والحقيقة أن الحديث عن رغبة في توقيع معاهدة بهذا المعنى، يتبدى وكأن الهدف من ورائه هو مجرد العبور فوق الأجواء الغاضبة التي تحاصر الجمهورية الإسلامية، منذ أن أرسلت إدارة الرئيس ترمب حاملة طائراتها الأشهر إلى الخليج، ثم أتبعتها بصواريخ «الباتريوت» وطائرات «الشبح»، وراحت تعبئ العالم ضد سياسة إيرانية منحرفة، لا تعبأ بأمن دول في الجوار، ولا تبالي بسلام منطقة بأسرها!

فالمسألة في حقيقتها ليست في توقيع معاهدة عدم اعتداء، يمكن أن تظل حبراً على ورق، شأن معاهدات كثيرة من هذا النوع، ولكنها في تعديل سلوك إيراني معتمد في محيط إيران العربي، منذ قامت ثورتها قبل أربعة عقود، والمسألة هي كذلك في مراجعة أداء سياسي إيراني، ثبت بالتجربة على الأرض أنه لن يقود في النهاية إلى شيء، إلا إلى إشاعة أجواء من عدم الاستقرار، تتمدد في كل الاتجاهات في كل صباح، وإلا إلى شيوع الغيوم في سماوات عربية لم تكن على هذا القدر من التجهم قبل ثورة الملالي!

كم تحدثت حكومة في طهران من قبل عن رغبة في حوار مع الجيران، وخصوصاً مع الرياض، وكم تكلمت عن استعداد لمد جسور من التعاون، وكم لمحت إلى أنها ترغب في أن تبني طريقاً من الثقة بينها وبين الدول الجارة على الشاطئ الآخر من الخليج، وكم كنا نصدق وننتظر البرهان والدليل، فكنا نكتشف أن لسانها يجري بمثل هذه الوعود، وأن يدها تبدد كل أثر للوعود نفسها في صنعاء، وفي دمشق، وفي بيروت، وفي بغداد، وربما في المنامة أيضاً!

هذه عواصم عربية، وسوف تبقى كذلك، وإيران دولة جارة لبعض هذه العواصم، وسوف تظل، وهي تعرف أنه ليس في إمكانها تغيير حدودها، ولا تبديل موقعها على الخريطة، ولكن في مقدورها أن تعيد حساباتها بجد، مدفوعة بحقائق الواقع، وأن تراجع مسيرة العقود الأربعة بصدق، في لحظة تجد نفسها فيها واقعة عند عين العاصفة، فحساب الحقل لديها، والحال على ما تراه ونراه، ليس على حساب البيدر، كما يقول الإخوة في أرض الشام!