أثارت «استراتيجيّة الأمن القومي» التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب استنفارَ روسيا لاتّخاذ «إجراءاتٍ للدّفاع عن مصالحها»، واعتبَر الكرملين تبنّي البيت الأبيض مبدأ «السّلام من موقع القوّة» توجّهاً «تصادميّاً» يُطيح بآمال الاختراق المرجوّ في العلاقات الأميركية – الروسيّة.
الجبهة الثانية المتأهّبة نتيجة الاستراتيجية الأميركيّة هي إيران التي ردَّت عليها بتصعيدٍ ومواجهة على الجبهة اليمنيّة، وذلك بإطلاق الحوثيّين صاروخاً فوق مناطق سكنيّة جنوب الرياض. الجبهة الثالثة التي فتَحتها إدارة ترامب لم يأتِ إعلان «استراتيجيّة الأمن القومي» على ذكرها، إنّما الرئيس الأميركي فجَّرها باعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل مُثيراً غضَب الأصدقاء والحلفاء من العرب والمسلمين ومسبِّباً لهم إحراجاً كبيراً.
السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أخذت الأزمة الى منعطفٍ جديد بعدما استخدَمت «الفيتو» على مشروع قرار في مجلس الأمن نال دعم 14 صوتاً نصَّ على رفض قرار واشنطن ودعا الى سَحبه ممّا أدّى بهايلي إلى التوعّد بأنّ أميركا «لن تنسى الإهانة».
وما لبثت أن توعَّدت حتّى نفَّذت عندما تحرَّكت الدول العربية والإسلامية في الجمعية العامة للأمم المتحدة فأنذَرَت بأنّ واشنطن تُدوِّن أسماءَ الدول وكيفية تصويتها على مشروع القرار. وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة، هدَّد الرئيس الأميركي بوقف المساعدات المالية عن الدول التي تُصوِّت لصالح القرار وقال «إنّهم يأخذون مئات الملايين من الدولارات، وربما بلايين الدولارات، ثمّ يُصوّتون ضدّنا. حسناً، سنُراقب هذا التّصويت. دَعوهم يُصوّتوا ضدّنا سنوفّر كثيراً ولا نعبَأ بذلك».
كلامُ دونالد ترامب مُهين وهو موجَّه الى الدول التي تتلقّى المساعدات الأميركية لفرض الأمر الواقع عليها عبر حَجب المعونات. إنّما ماذا عن الشريك الاستراتيجي الّذي لا يحتاج المعونات الأميركيّة مثل السعودية التي كان عاهلها الملك سلمان بن عبد العزيز يستقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم التّصويت على مشروع القرار إبرازاً للدّعم السعودي للقضية الفلسطينيّة؟
كيف تَنوي إدارة ترامب معاقبة التّصويت السعودي والإماراتي والمصري مع قرار الجمعيّة العامة علماً بأنّ علاقاتٍ استراتيجية وشراكاتٍ مهمّة تَجمع هذه الدول بواشنطن؟ يوجد الكثير من معالم السياسة غير النّاضجة في تصرّفات إدارة ترامب في منظّمة الأمم المتّحدة حيث يحقّ لكلّ دولة أن تُدلي بالصّوت والرأي الذي تريد.
إنّها استراتيجيّة الإحراج والإملاء والتّهديد والإجبار والتي هي ليست في المصلحة الأميركية البعيدة المدى ولا تتماشى مع مبادئ الديموقراطية واحترام رأي الغير. والأسوأ أنّها سياسة الانقلاب على الشرعيّة الدولية وعلى أعراف التعامل بين الدول بغض النظر إن كان طرح قرار سيادي في مشروع قرار أمام مجلس الأمن خطأً سياسياً أو تطاولاً على الولايات المتحدة.
عندما تحرَّكت مصر، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، بمشروع قرار طالب بسحب قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، كانت تقصد التأكيد على قرارات سابقة لمجلس الأمن اعتبرَت أنّ وضعَ القدس لا يتغيَّر إلّا بموجب المفاوضات وأنّ أيّة إجراءات تهدف الى تغيير هذه المرحلة برمّتها في السياسة الخارجية الأميركية تبدو أحياناً اعتباطيّة النّزعة حتى في إطار وضع استراتيجيّات كبرى كتلك المعنيّة بالأمن القومي.
السبب، كما يقول أحد المراقبين المقرّبين من أركان إدارة ترامب، هو أنّ دونالد ترامب يقتطف هنا وهناك من ثلاثة معسكرات تتقاتل فيما بينها لصنع القرارات النهائيّة. لذلك إنّ أدوات التنفيذ مؤجّلة.
المعسكر الأول، يقول المصدر، يَعتبر أنّ الصين تشكّل التحدّي الأكبر البعيد المدى للمصالح الأميركية، تَليها إيران وتركيا على المدى القصير. المنتمون لهذا المعسكر يطلبون من الإدارة أن تساعد روسيا حتى وإن تطلَّب ذلك تضحيات مثل بقاء بشار الأسد في السلطة. الصين بالنسبة إليه يأتي معها تحدّي كوريا الشمالية، وكلاهما يقع في خانة المدى البعيد.
إيران وتركيا وقطر و«حزب الله» يقعون تحت عنوان المدى القصير. شعار المنتمين لهذا المعسكر من اليمين المتطرّف – ويقوده ستيفن بانون – هو ضرورة القضاء على التطرّف الإسلامي الراديكالي، السنّي والشيعي، بلا تمييز.
المعسكر الثاني، الذي يقوده صهر الرئيس جاريد كوشنير ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، يُوافق مع المعسكر الأوّل على ضرورة التحالف الاستراتيجي مع دول خليجيّة تتصدَّى للتطرّف الإسلامي مثل السعودية والإمارات عبر الإصلاحات والسياسة الحازمة. يُريد الحفاظ على تماسك مجلس التعاون الخليجي، ولذلك يُصرّ على أنّ قطر هي التي تُغرّد خارج السّرب وتُهدّد وحدته.
يعتبر إيران مشكلة كبيرة في العراق وسوريا، فيما لبنان، في رأي هذا المعسكر ساحة «ساقطة عسكريّة وسياسيّة» بحسب تعبير المراقب نفسه. أمّا فيما يخصّ روسيا فلا يعتقد هذا المعسكر أنّ الرئيس فلاديمير بوتين صادق وأنّه لن يتمكّن من التخلّي عن إيران، وبالتالي يجب زيادة الضّغط على روسيا وإيران وبشار الأسد.
المعسكر الثالث يُريد الاحتفاظ بالوضع الراهن، وهو يرى أنّ أسلوبَ الرئيس السابق باراك أوباما نحو إيران فيه عِبرة، ولذلك يجب عدم النظر إليها بأنّها مصدرُ تهديد. وزير الخارجية ريكس تيليرسون يقود هذا المعسكر ويَستعين بوزير الدفاع جيمس ماتيس في بعض الحالات مثل اعتبار مشكلة كوريا الشمالية أكثرَ جدارةً بالاهتمام. تيليرسون لا يَرى جدوى في التحالف الاستراتيجي مع السعودية والإمارات.
أيُّ معسكر سيَربح؟ الجواب عند دونالد ترامب. موعد مرور سنة على استلامه السلطة في 21 كانون الثاني قد تكون له دلالة عندما يتوضّح إن كان تيليرسون باقٍ أو راحل. إلى حين ذلك سيمضي دونالد ترامب في الإيحاء لكلٍّ من المعسكرات أنّه هو الابنُ المدلّل وسيبقى العالمُ عالقاً بين التأهّب والاستنفار والإحراج.