لا يختلف اثنان على منطلقات حملة «طلعة ريحتكم»، المقصود منها الإشارة الى رائحة الفساد في الوسط السياسي اللبناني والذي انعكس شللاً في التعاطي الرسمي مع أمور يفترض أن تكون بديهية مثل إزالة القمامة من الشوارع. السجال المستحقّ الآن هو حول آفاق هذا التحرك الذي ربما يكون حُمّل أكثر مما يتحمل لجهة الرهان عليه مشروعاً يتيماً خارقاً للطوائف والانقسامات، في حين لا يستطيع مضاهاة الطبقة السياسية تنظيماً وقدرة على الحشد وإثارة الغرائز. والجدل أيضاً حول جدوى رفع شعارات من نوع «إسقاط النظام» من دون وجود بدائل وآليات مناسبة للتغيير.
«طلعت ريحتهم… من زمان» والمطالب التي حملها آلاف من المتظاهرين إلى الشارع نهاية الأسبوع الماضي، محقة ومستحقة، لولا اختراق الحراك من جانب من أُطلقت عليهم صفة «مندسين»، وثمة ترجيحات أن يكونوا «مدسوسين» من قبل هذه الجهة أو تلك، لتخريب الحراك برمته، بتحويله إلى أعمال عنف تبرر قمعه بكل الوسائل المتاحة.
معظم السياسيين اللبنانيين وعلى اختلاف توجهاتهم، أيّد بدهاء معهود، المطالب التي نزل الناس إلى الشوارع من أجلها، منادين بتأمين الخدمات ووقف المحاصصات وإهدار المال العام. لكن التأييد السياسي للحراك الشعبي ظل بمعظمه، مصلحياً واعتباطياً، من دون بحث معمق في كيفية الوصول الى آلية لتنظيف البلد من «النفايات السياسية»، التعبير الذي بات متكرراً في وسائل الإعلام، ويُستدل من تعميمه على أنه سيبقى تعبيراً لتنفيس الاحتقان وتقاذف المسؤوليات، لا يرقى إلى مستوى التحوّل شعاراً لتغيير.
والمأزق أن المطالب التي رفعها بعض المتظاهرين لجهة «إسقاط النظام» تبدو غير ناضجة، فماذا لو استقالت الحكومة ومعها المجلس النيابي؟ من يسيّر أمور البلاد حينها؟ وهل ستبقى بعدها هيبة لشرطي أو رجل أمن لتدارك فوضى واعتداءات محتملة على الأملاك العامة والخاصة؟
في غياب الحكومة ومجلس النواب وطبعاً الفراغ الكبير في كرسي الرئاسة، ثمة جدل كبير حول إمكان إجراء انتخابات لإعادة تكوين سلطة بديلة، وهو جدل يكاد يتحول بيزنطياً كسائر السجالات في لبنان، لكن السؤال يتناول أيضاً مدى قدرة المجتمع على إفراز طبقة سياسية جديدة خالية من «ثقافة» الفساد ومنطق المحاصصات، أو أن هذا الفرع المهترئ من جذع عطيب، وعندها الخوف ألا ينفع تقليم حتى يصل إلى حد اقتلاع الجذع وتلك طامة كبرى.
ربما أوحت الأحداث في شوارع بيروت نهاية الأسبوع الماضي، أن ثمة ربيعاً تهب نسائمه على البلاد، لكن أي ربيع متوقع في ظل الشواهد المخيفة في المنطقة، ومن دون قيادات سياسية تتبنى مشروعاً لدعم الحرية والتداول السلمي، وأيضاً تضبط سلوك المجتمع وتقدم نفسها نموذجاً ومرجعية للقيم، لينعكس ذلك على أداء المؤسسات.
لا ربيع متوقعاً ما لم يتضمن مشروعه التأسيسي عملية تنمية شاملة بعيدة من المحاصصة في ظل تكافؤ الفرص، وذلك من أجل تعميق إيمان الناس بالدولة بدل إبقائهم أسرى مجتمع يتنافس على التقرب الى السلطة لتحقيق المكاسب وانتزاع الحقوق بحدها الأدنى.
وربما يكون المدخل الوحيد لتغيير تدريجي وبطيء، هو إجراء انتخابات بقانون متطور، خارق للمحاصصات، يعطي حينها اللبنانيين فرصة ويضعهم أمام امتحان صعب، هو اختيار كفاءات على قدر كبير من التعفف والنزاهة لتمثيلهم في المجلس النيابي ووضع آليات مناسبة لمعالجة التدهور في الأوضاع المعيشية والتعامل بشكل ملحّ مع تفاقم الدين العام. فهل يمكن إجراء انتخابات، من دون إنجاز الاستحقاق الرئاسي أولاً؟