كان الرئيس تمام سلام يخبر كاميرون عن مآزق لبنان الدستورية والسياسية والأمنية والمالية، بما فيها أزمة النازحين الكيانية… فردَّ عليه ضيفُه الإنكليزي في شكلٍ مقتضب، وبالبرودة الإنكليزية المعروفة: نحن ندعمكم ومعكم في كلّ شيء… لكننا مهتمون الآن بملفّ اللاجئين. كيف سنضبط فوضى اللجوء في أوروبا؟
جاء رئيسُ الوزراء البريطاني إلى لبنان، وبعده سيأتي الرئيسُ الفرنسي فرنسوا هولاند، لا من أجل لبنان أو رئاسة الجمهورية، بل لغاياتٍ محض أمنية وديموغرافية أوروبية، بعدما وصلت «الموس» إلى الذقن.
وأساساً، يعتقد الفرنسيون أنهم يقومون بالواجب لتحريك ملفّ الرئاسة. أما كاميرون فيرى أنّ بريطانيا تقوم بواجبها في دعم الجيش اللبناني لمواجهة الإرهاب على الحدود اللبنانية- السورية، سواءٌ بالبرنامج الخاص بتدريب 5 آلاف عسكري، أو بتثبيت نقاط مراقبة متطوِّرة في جرود عرسال نحوَ رأس بعلبك والقاع.
الدافع.. الخطر الأمني
والدافع الأساس لحركة كاميرون، وهولاند لاحقاً، هو الخطر الأمني والديموغرافي والاجتماعي الذي بات يهدِّد أوروبا. فالمعلوماتُ التي تتداولها أجهزة الأمن الأوروبية تتحدّث عن دخول ما بين 4000 و6000 عنصر من «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى إلى أوروبا، ضمن موجات اللاجئين.
وتدرس الأجهزة ما يمكن أن تقود إليه هذه الظاهرة من عواقب على المجتمع والأمن الأوروبيَين، خصوصاً إذا قام الإرهابيون بتجنيد آخرين من اللاجئين أو من المسلمين المقيمين في أوروبا، والذين شاركت أعدادٌ كبيرة منهم في القتال في سوريا والعراق تحت عنوان الجهاد.
الذين التقوا كاميرون لاحظوا الحماسة الإستثنائية التي تميَّز بها موقفه لحلّ أزمة اللاجئين ومساعدة لبنان. ومن هؤلاء الوزير الياس بوصعب الذي قال لـ«الجمهورية»: إنّ بريطانيا تبذل جهداً إستثنائياً لمساعدة لبنان في ملفّ اللاجئين. لكنّ المشكلة في عدم التوصل إلى حلّ سياسي في سوريا ينهي أساس المشكلة.
ويبرز هنا الكلام الذي نسبته صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية إلى بوصعب، خلال لقائه كاميرون، وفيه أنّ 2 في المئة من اللاجئين يمكن أن يكونوا إرهابيين من «داعش» تسلّلوا تحت جناح اللجوء إلى أوروبا.
وهنا يوضح بو صعب أنّ «النصّ المنسوب ليس دقيقاً تماماً. فما قلته لكاميرون هو أنّ الغالبية الساحقة من اللاجئين هم من المدنيين العاديين، ولا علاقة لهم بالإرهاب. ولكن، قد يتسلَّل ما نسبته 2 في المئة أو 3 في المئة إلى مخيمات النازحين. وهذا ما حصل في حادثة خطف العسكريين، إذ جاء الخاطفون من المخيم- كما أبلغتنا المراجعُ العسكرية- ونفّذوا عمليتهم واقتادوا العسكريين إلى الجرود».
وقال: «إنّ ضغط النازحين لن يقف عند حدود لبنان، إذا لم تتحقَّق التسوية السياسية في سوريا. والدليلُ هو أنّ أزمة اللاجئين بدأت تجتازُ الحدودَ إلى أوروبا».
في أيّ حال، تخشى حكومة كاميرون إزديادَ التطرّف في بريطانيا، إذا تسلَّلت عناصر إرهابية متطرّفة إلى بريطانيا تحت رداء اللاجئين. فالمجتمعاتُ الأوروبية أظهرت في السنوات الأخيرة جنوحاً إلى اليمين المتطرف، وثمّة مخاوف من نموٍّ إضافي لهذا الاتجاه، ما يهدِّد بمخاطر إجتماعية. فالتطرُّف الإسلامي والتهديد بالإرهاب في قلب أوروبا سيمنحان اليمين المتطرف ذريعة لاكتساح شرائح اجتماعية إضافية.
وهناك نحو 120 ألفاً يحتشدون جنوب أوروبا، خصوصاً بين اليونان وإيطاليا والمجر، في طريقهم إلى الداخل الأوروبي. وإذ تضغط المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لتمرير خطة تقاسم اللاجئين، وتعلن الاستعدادَ لاستقبال 26 في المئة منهم، فإنّ دولَ أوروبا الجنوبية والشرقية ترفض الخطة.
ويعتقد الخبراء أنّ ميركل تريد الاستعانة باللاجئين السوريين على غرار استعانتها بأكثر من 400 ألف لاجئ من يوغوسلافيا السابقة خلال الحرب الأهلية. فهي تجدُ فرصة في تثمير هذا المدّ السكاني إقتصادياً بالحصول على يدٍ عاملة رخيصة، وفي تجديد شباب المجتمع الألماني الذي يتحوَّل أكثر فأكثر مجتمعاً هرماً. وقد يبلغ عددُ طلبات اللجوء إلى ألمانيا وحدها خلال العام 2015 نحو 800 ألف.
وهكذا، يذهب الأوروبيون إلى مؤتمر مجموعة الدعم في نيويورك آخر الشهر الجاري منقسمين إزاءَ الملف، إلّا إذا نجحت المساعي لعقد قمّة أوروبية توحِّد الموقف. وفيما برز اتجاهٌ فرنسي إلى تفضيل المهاجرين المسيحيين، يضغط الألمان لعَزل عامل الانتماء الديني في ملفّ اللجوء.
ويرتدي ملفُّ اللجوء أهمية بالنسبة إلى كاميرون. فمن شأنه أن يقرِّر مستقبلَ بريطانيا، بين أن تبقى في الاتحاد الأوروبي أو تغادره. وقد حدَّد كاميرون موعداً لاستفتاءٍ عام في هذا الشأن سنة 2017، ربما يُقرّب موعده إلى العام المقبل إذا اقتضت الظروف ذلك.
إذاً، في هذا السياق الأوروبي جاءت زيارة كاميرون للبنان. وخلالها، لم يتقدّم المسؤول البريطاني بطروحاتٍ عَمَلية لمواجهة الملفّ، وأبلغ الرئيس سلام أنّ بريطانيا مستعدة لاستضافة 20 ألف لاجئ موجودين اليوم في دول الجوار السوري، ضمن برنامج زمني يمتدُّ على 5 سنوات!
الرقم الهزيل
وهذا الرقم الهزيل، وبالتقسيط المملّ، يعني أنّ بريطانيا ستسحب من لبنان قرابة الـ1000 أو الـ1500 نازح سوري سنوياً… من أصل 1.5 مليون لاجئ. ومعلوم أنّ هذا العدد المقترَح سحبه سنوياً يدخل إلى لبنان في يومٍ واحد أحياناً! إذاً، جاء كاميرون ليأخذَ من لبنان تطميناتٍ في ملفّ اللاجئين، بدلاً من أن يعطيه ضماناتٍ يحتاجها في مواجهة المخاوف الكيانية.
وهو كان مهتمّاً بالنقاش حول كيفية أداء لبنان دورَ الحاجز و«المصفاة» في آن معاً. فالمطلوب من لبنان أن يحدَّ من تسرُّب اللاجئين، خصوصاً عبر المتوسط نحو الجزر اليونانية وتركيا وإيطاليا، وأن يتشدَّد في رصد العناصر الإرهابية فلا تتسلَّل إلى أماكن إقامة النازحين، ومنها إلى أوروبا تحت ستار اللجوء الإنساني.
في المقابل، كان سلام يريد اغتنامَ الفرصة ليشرح لضيفه الواقع اللبناني الصعب على مختلف المستويات، ولاسيما الفراغ الدستوري الذي يُضعف قدرة لبنان على مواجهة التحدّيات ويزيد المخاطر على الاستقرار.
فالشارعُ في لبنان محتقن اجتماعياً وسياسياً، والحرب في سوريا تزيد المخاوف. ويخوض الجيشُ مواجهة مع الإرهاب في القلمون، وتقوم أجهزة الأمن بترصُّد الخلايا الإرهابية، فيما النازحون السوريون يزيدون حالة الإرباك السياسي والأمني والإنساني، ولم يفِ المجتمع الدولي بتعهداته ووعوده بتقديم الدعم الكافي للبنان كي يواجه المأزق.
وردَّ كاميرون بالتأكيد على استمرار تقديم الدعم للحكومة وللبنان، لوجستياً، في مواجهة الإرهاب. وأبلغ سلام وقائد الجيش العماد جان قهوجي أنّ لندن ماضية في وضع معلوماتها وخبراتها كافة في أيدي الأجهزة اللبنانية لكشفِ الخلايا الإرهابية وإحباطِ مخططاتها.
كما أعلن عن تخصيص مبالغ إضافية لدعم النازحين في لبنان، تقارب الـ140 مليون دولار: نحو 90 مليوناً مساعدات تربوية على مدى 3 سنوات، ونحو 50 مليوناً جزءاً من مساعدات للاجئين (153 مليوناً) في داخل سوريا وخارجها. ولكنّ هاجساً واحداً كان ينتاب كاميرون، هو كيفية ضبط فوضى اللاجئين في أوروبا، وبريطانيا خصوصاً.
انطباع سائد
ويسودُ انطباعٌ بأنّ كاميرون لم يكن ليتحرَّك في شكلٍ طارئ لو بقيت أزمة اللجوء محصورة بلبنان وسائر دول الجوار السوري، ولو لم تهدِّد الأوروبيين في عقر دارهم. وثمّة تقارير تؤكد أنّ اللاجئين السوريين إلى دول أوروبا الجنوبية والشرقية، الفقيرة إجمالاً، سيغادرونها بعد وقت قصير إلى الدول الغنية، خصوصاً ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
فالوضعُ الاقتصادي والاجتماعي في الدول الفقيرة سيتدهور سريعاً بتأثير من ضغط اللاجئين. ولذلك، ستعمد هذه الدول إلى إبعاد اللاجئين عن أراضيها دفعة واحدة، وفي شكلٍ مكثّف. وهذا الخوف بدأ يقضّ مضاجعَ البريطانيين والفرنسيين ويدفعهم إلى الاستنفار بعد صمتٍ طويلٍ وتجاهلٍ متمادٍ للمخاوف التي قد تنجم عن ملف اللاجئين.
وعلى مدى 5 سنوات من الحرب السورية، تدفَّق النازحون السوريون والفلسطينيون إلى لبنان، بمعدلاتٍ شهرية وصلت أحياناً إلى الـ90 ألفاً، حتى بلغوا أكثر من مليونين، أيْ بمقدار 50 في المئة من الشعب اللبناني.
وطلب لبنان تدخُّل المجتمع الدولي ومساعدة العرب في مواجهة الأزمة التي تهدِّده كيانياً. لكنّ الحلولَ التي كانت معروضة على لبنان لم تتجاوز تقديم الدعم المالي الضئيل، حتى بدت هذه المساعدات أشبه بالرشاوى للسكوت على التدفُّق العشوائي.
وفي مؤتمر برلين للاجئين، جرى الضغطُ على لبنان ليوقِّع على اتفاقية جنيف 1951، وهي ملزِمة للموقِّعين عليها. ومن شأن ذلك، لو تمّ، أن يمنح اللاجئين السوريين حقوقاً في مجالات التنقل والتعليم والعمل ووثائق السفر. ووفقاً للاتفاقية، لا تجوز إعادة اللاجئين إلى بلدهم، إذا كانوا يخشون الاضطهاد. وتقول مفوّضية اللاجئين في شرحها للاتفاقية إنّ حالاتٍ «قد تنشأ، يندمج فيها اللاجئون بصورة دائمة في بلد لجوئهم».
القوى الدَولية أغمضت أعينها
ولطالما انتاب المراقبين شعورٌ بأنّ القوى الدَولية أغمضت عينيها عن المخاطر الكيانية التي تهدِّد لبنان لأنها كانت مرتاحة من اللاجئين. وكذلك، فإنّ الدول العربية الغنية التي يمكن أن تساهم عملياً في معالجة ملف اللاجئين، بتوزيع هؤلاء عليها وإيوائهم وتخفيف الضغط والخطر الكياني عن لبنان، اكتفت بتقديم مساعداتٍ مالية قليلة.
واليوم، أقرّ البريطانيون والفرنسيون والأوروبيون عموماً استخدامَ القوة للتصدّي لتهريب اللاجئين عبر المتوسط، لكنّ هؤلاء لم يوفِّروا وسيلة لمهاجمة المسؤولين اللبنانيين عندما قرّروا اتخاذَ خطواتٍ تحدُّ نسبياً من تدفُّق اللاجئين، بعدما أصبحوا 50 في المئة من سكان لبنان الواقف على أرجوحة طائفية ومذهبية واجتماعية دقيقة جداً.
لقد كان سلام واضحاً عندما قال لكاميرون إنّ الحلّ الحقيقي لمسألة اللاجئين يكون في إيجاد تسوية سياسية في سوريا. لكن، عندما يقول كاميرون إنّ برنامجه لاستضافة اللاجئين يمتدُّ إلى 5 سنوات، فهذا يعني أنّ الحرب طويلة جداً في سوريا، بالمنظور البريطاني.
وحتى الوصول إلى نهاية النفق السوري، قد ينجح الأوروبيون في ضبط فوضى اللجوء تماماً، في دولٍ قوية وغنية ومتماسكة ولا يتجاوز فيها اللاجئون مقدارَ 0.1 في المئة. ولكن ماذا يبقى من لبنان في هذه الأثناء؟