انتهى الشهر الأول من السنة الجديدة والأمور تشير الى سنة صعبة على كلّ المستويات. القلق كبير في السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع وغيرها، وبالتالي منابع التفاؤل ضعيفة وقليلة بل تحتاج الى مَن يضخّ فيها الأخبار الجيدة. لكنّ التفاؤل يبقى ضرورياً للعمل والاستمرارية والتقدم. النظر بتفاؤل الى بقية السنة لا يعني تجاهل الوقائع والأرقام والأوضاع، إنما يعني النظر الى الحقائق والمؤشرات بطريقة أخرى.
يحتاج كلّ اقتصاد، بل كلّ مجتمع الى متفائلين ومتشائمين كي يستمرّ بل كي ينجح. المتفائل اخترع الطائرة والمتشائم اخترع المظلة، وهنالك حاجة للاثنين ليكملا بعضهما البعض.
التفاؤل ضروري للتقدم والتشاؤم ضروري للحماية والوقاية، وبالتالي وجودهما سوية مهمّ جداً للوطن وللتقدم الانساني. لا علاقة للتفاؤل والتشاؤم بالواقع أو بالحقيقية، انما يرتبطان بكيفية رؤية الواقع أيْ بوجهات النظر والتحليل الشخصي للحقائق.
يحتاج كلُّ مجتمع الى جرعة من التفاؤل، أو الى توافر عدد كبير من المتفائلين كي يتطوّر عبر الاستثمارات والأفكار والمشاريع وغيرها. ويحتاج أيضا الى جرعة من التشاؤم وأعداد من المتشائمين منعاً للتهوّر والمغامرات غير المحسوبة التي تؤدّي الى خسائر يمكن تجنّبها.
اذا نظرنا الى سنة 2015 دون غيرها، لا بدّ وأن يتشكل في أنفسنا بعضَ القلق. اذا نظرنا الى هذه السنة كاستمرار لما تحقق في الماضي من ايجابيات وسلبيات، تصبح الصورة أفضل. هنالك رغبة عالمية في استمرارية الحياة على الرغم من وجود موقت حكماً لبعض مواقع الشرّ والظلام والظلمة. الشرط الأساس لتحقيق التقدم في المجتمعات هو استمرار الرغبة بالتقدم عند المواطنين.
فالتقدم ينبع من الداخل ولا يمكن استيراده. لا وجود للضوء من دون الظلمة، والحياة اليومية كما نعرفها ليست مسيرة سهلة مليئة بالورد والعطور والفرح وإنما تكون صعبة بتحدياتها. هنا تكمن أهمية التفاؤل للانتصار على تحديات الحياة.
الاقتصاد الدولي متعثر من دون شك، إلّا أنّ الانجازات التي تحققت سابقاً كبيرةٌ ومدهشةٌ في النموّ والتننمية والعلوم والأداب وغيرها. أزمة 2008 كان يمكن لها أن تنهي الانفتاح وتحقق الانغلاق والحمايات، إلّا أنّ هذا لم يحصل بفضل الوعي العالمي للترابط والتعاون والتواصل. ارتفع العمر المرتقب في كلّ دول العالم بفضل التطوّر التكنولوجي والصحّي وامتداده بدرجات مختلفة الى كلّ العالم.
في آخر الاحصائيات المتوافرة، بلغ متوسط العمر المرتَقَب 89,6 سنة في موناكو، 83,5 في اليابان، 81,7 في فرنسا، 79,8 في لبنان، علماً أنّ هنالك فارقاً عالمياً بين النساء والرجال يُقدَر بأربع سنوات لصالح السيدات يعود لعوامل بيولوجية وحياتية.
ارتفع الناتج الفردي السنوي الى حدود لم يعرفها العالم من قبل أيْ 93825 دولاراً في دولة قطر، 78928 دولاراً في سويسرا، 56374 في الكويت، 51749 في الولايات المتحدة و41692 دولاراً في الامارات.
تبقى هنالك دول فقيرة خصوصاً في أفريقيا لم تستفد من النموّ العالمي كما يجب بسبب الفساد وسوء الحكم ومحاولات الاستغلال الداخلية والخارجية. إلّا أنّ أفريقيا اليومَ تتقدّم بخطوات ثابتة بفضل الموارد الطبيعية الكبيرة وفرص الاستثمارات الواعدة. ستتغيّر أفريقيا قريباً بشكل كبير وغير مسبوق في قاموس التنمية العالمية، وهذا يشكل تحدِياً إيجابياً إضافياً للمنطقة العربية.
في مؤشر التنمية الانسانية، خطا المجتمع الدولي خطواتٍ كبرى بفضل وعي الرأي العام الى حقوقه المتكاملة. «الربيع العربي» وإن لم يعطِ بعد النتائج المرجوة، إلّا أنه أظهر للعالم أنّ هنالك مجتمعاً عربياً غيرُ راضٍ عن أوضاعه وراغبٌ بالتغيير وربما لا يدري في أيّ اتجاه يجب أن يتحقق هذا التغيير. هنالك مجتمع أوروبي ينتفض على السياسات التقشفية الظالمة التي زادت الفقير فقراً ما دفعه الى الانتفاضة ديموقراطياً ليس فقط في اليونان وإنما في دولٍ أخرى لاحقاً.
في مؤشر التنمية الانسانية وفي المئة، تحصل الولايات المتحدة على 91,1، بريطانيا على 89,2، اليونان على 85,3، قطر على 85,1، والسعودية على 83,6. هنالك دول أخرى عدّة خصوصاً في أفريقيا تحقق مؤشراتٍ منخفضة بسبب الفقر والقمع وغياب العدالة وسوء الحوكمة والفساد.
من المؤشرات التي تدعو للتفاؤل ارتفاعُ حجم التجارة العالمية الذي ربط العالم أكثر بعضه ببعض. استفادت الدول الصغيرة كثيراً من الانفتاح الاقتصادي ما سمح لها بالتصدير والوصول الى الأسواق الواسعة. لا ينكر أحدٌ أنّ فجوة الدخل والثروة اتسعت مع العولمة بسبب السياسات الاقتصادية التي رفعت مستوى المخاطر في الأسواق.
وتُعتبر منطقة اليورو المصدِّر الأكبر في العالم وهي ستستفيد كثيراً من انخفاض نقدها اليوم في الأسواق، وكذلك تشكل منطقة اليورو 15,77% من مجموع الصادرات تليها الولايات المتحدة (11,78%)، فالصين (9,16%). هنالك دول لا تصدِّر الكثير بسبب ضعف الانتاج وسوء تنويعه كما بسبب ضعفي عاملَي الانتاجية والتنافسية المهمَين جداً للتقدّم والنموّ والتجارة.
تشير أرقام ميزان المدفوعات الى تغيُّر واضح في الواقع المالي العالمي أيْ فائضٌ كبير في دول وعجزٌ أكبر في أخرى. بين الدول ذات الفائض السنوي الكبير ألمانيا (255,383 مليون دولار) تليها الصين (193,139).
بين الدول العربية، تحقق السعودية فائضاً كبيراً (164,764 مليون دولار) تليها الكويت والامارات وقطر ما يشير الى أنّ انخفاض أسعار النفط بدأ من منتصف 2014 ولن يؤثر بسرعة وقوة في القدرة الخليجية العربية في الاستثمار والمساعدات.
من الدول ذات العجز الأعلى في ميزان المدفوعات الولايات المتحدة (440,423 مليون دولار) تتبعها بريطانيا والهند وأوستراليا وكندا وغيرها. قوة الدولار المتزايدة لن تساعد الولايات المتحدة في تخفيف العجز، إلّا أنّ الأمل عندها يقضي في تطوير إنتاج النفط الصخري وثمّ تصديره.
في الاحتياطي النقدي، تقع الصين في المرتبة الأولى عالمياً ما يشير الى قدرتها الكبيرة على إقراض الغرب خصوصاً الولايات المتحدة تليها اليابان ومنطقة اليورو والسعودية. في الاحتياطي الذهبي تتقدّم منطقة اليورو وثمّ الولايات المتحدة وتأتي دولٌ عربية في مراتبَ متقدِمة كالسعودية ولبنان والجزائر.
في تحويلات العاملين في الخارج الى دول المنشأ، تتقدّم الهند عالمياً وثمّ الصين والفيليبين والمكسيك وهنالك دول عربية عدّة تستفيد من مواطنيها كمصر ولبنان والمغرب. تساهم هذه التحويلات في تخفيف الأوجاع الاقتصادية التي يقع تحتها المواطنون غير القادرين على تحسين أوضاعهم في الداخل، فتأتي المساعدة الجميلة من الخارج.
أفريقيا ليست متأخرة في كلّ المؤشرات، إنما تُعتبر متقدِمة في العديد منها. نسبة النساء في مجلس النواب تصل الى %63,8 في رواندا، 44,8% في أفريقيا الجنوبية مقابل 39,1 في الدانمارك و 36,5% في ألمانيا. هذا مفيد ويشير الى أنّ للمجتمعات الأفريقية طاقة كبيرة للتقدم عندما تسمح لها الظروف بذلك. مَن هي المجتمعات الأكثر تفاؤلاً؟
تشير الدراسات الى أنّ المجتمع النيجيري يقع في الطليعة تليه «فيجي» وثمّ الهند فالسعودية والمغرب. المجتمعات الغربية ليست متفائلة على الرغم من حصول سكانها على الرفاهية المطلوبة التي يحلم بها سكان الأرض الآخرون. تقع فرنسا مثلاً في المرتبة 64 وايطاليا في المرتبة 65. هنيئاً للمتفائلين والسعداء بسبب أو من دون سبب، فهذا ضروري للتقدّم.
في لبنان، الأوضاع متعثِّرة والحقائق لا تدعو الى الاعجاب والاطمئنان. إلّا أنّ مواجهة الواقع بالتشاؤم يقضي على الاقتصاد. مواجهة الواقع بالتفاؤل يفيد خصوصاً في هذه المرحلة. فالتفاؤل يساعد على العمل ويسمح بالتركيز على إنجازات الماضي للتقدّم.
يملك لبنان مقوِمات كبيرة بدءاً بالطبيعة الى المناخ والتربية والصحة بالاضافة الى وجود عدد كبير من المبدعين والمبدعات يعزِّزون الأمل في المستقبل. يحتاج لبنان الى قيادات جديدة في القطاعين العام والخاص تتناسب مع هذه التحدِّيات الفريدة وتعطي الأمل للمواطن.