مشاكل لبنان كبيرة، وعدم استطاعة الاستاذ مصطفى أديب تشكيل الحكومة يشير الى تعثر النظام اللبناني في انتاج ما يريده اللبنانيون من حياة كريمة ومريحة. بالرغم من وجود عراقيل خارجية، الا أن المشكلة في لبنان هي صراحة داخلية بامتياز وسببها عدم اتفاق اللبنانيين على أكثرية الأمور الأساسية وليس السطحية فقط. ما انتجه اتفاق الطائف لم يعد يكفي، ولا بد من اتفاق جديد يسمح بتداور السلطة بهدوء وسرعة ويجدد ثقة الشعب بالنظام ويضخ الأمل مجددا في قلوب وعقول اللبنانيين. ما قاله الرئيس ماكرون بشأن السياسيين يعبر عن مشاعر أكثرية اللبنانيين تجاه الطبقة السياسية الفاسدة المتحكمة بالقرارات. من الأمور المهمة السيئة التي انتجها النظام اللبناني هو ارتفاع الفقر وفشل المعالجات.
الفقر ظلم وكآبة وتعاسة وينعكس سلبا على الاقتصاد بالرغم من أنه ينتج عنه. في لبنان الفقر كان نسبيا، اذ لم نعتد يوما على وجود فقراء بالدرجة التي توجد في دول أسيا كبنغلادش والهند وباكستان. يحدد البنك الدولي الفقر بدخل فردي أقل من دولار واحد في النهار وتم تعديله لاحقا الى دولارين. هذه المؤشرات اذا حولت الى 1500 ليرة للدولار، لا نجد فقراء في لبنان. أما اليوم وبسبب وصول الدولار الى مستويات عالية أو بالأحرى بسبب تدني الليرة الى مستويات لم نشهدها سابقا، أصبح سهلا أن نجد لبنانيين فقراء ضمن المعايير الدولية. دولارين في اليوم أو 60 دولارا في الشهر أي ما يعادل حوالي 500 ألف ليرة أو أكثر أصبح واقعا والحبل على الجرار. كنا نشبه لبنان حتى آخر 2019 بأفضل الدول الناشئة، أما اليوم فنشبهه بالدول النامية المتعثرة ليس فقط ماديا وانما معنويا واداريا ونفسيا. لبنان خسر الكثير منذ بداية 2020 وما زلنا نخسر بسبب غياب القيادات الكفؤة والمناسبة. نحن في وضع لا نحسد عليه.
فكرة انهاء الفقر بدأت في القرن الثامن عشر لكنها لم تنتج سياسات ونجاحات بسبب ضعف الاهتمام. في القرن التاسع عشر، تدنت مستويات الفقر كثيرا وبالتالي لم يعد الموضوع من الأولويات. مضت الأيام وعاد الاهتمام بالفقر ليظهر منذ ستينيات القرن الماضي ليس فقط بسبب المؤشرات الاقتصادية المتدنية وانما خاصة بسبب الوعي الشعبي لمساوئ الفقر. عند تسلم «مارتن لوثر كينغ» جائزة نوبل للسلام في سنة 1964 قال «لا شيء جديدا فيما يخص الفقر، الا فقط أننا نملك اليوم الموارد المناسبة للقضاء عليه». في نفس السياق، قال الاقتصادي السويدي «ميردال» الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في سنة 1964 وفي خطاب في جامعة جورجتاون «أن القضاء على الفقر يحتاج الى مشروع مارشال متخصص». هكذا عاد الاهتمام بالفقر ليتدنى عند ظهور أزمة الديون الخارجية في الثمانينات، وبالتالي عدلت الحكومات جهودها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحفيز النمو. بعدها عاد الفقر مجددا الى الواجهة.
تكمن مشكلة الفقر بضرورة جمع الشمل الدولي لمحاربته، اذ ان ضربه وطنيا فقط لا ينجح بسبب العلاقات التجارية والمالية الدولية وبسبب انتقال الشعوب بين الدول. مشكلة الفقر تكمن في أن القضاء عليه يتطلب جهودا كبرى متنوعة من مصادر متعددة تنسق فيما بينها. لا بد من تنفيذ سياسات على مستويات ثلاثة: القطاع العام، الجمعيات غير الحكومية والمؤسسات الدولية:
أولا: يجب تحقيق نمو اقتصادي قوي ومتواصل شرط أن لا تستفيد منه أقلية. توزيع النمو على كافة الشعب والمناطق مهم. النمو لا يكفي للقضاء على الفقر لكن وجوده يسهل العملية ويسرعها. هنالك قناعة دولية تقول أن الفقر ظلم وهو سيئ ويجب انهاؤه وهذا الشعور ليس قديما اذ كان يظن أن وجود فقراء طبيعي وصحي وينتج عن العجلة الاقتصادية العادية. حسنا تغيرت القناعات الدولية وأصبحت محاربة الفقر هدف السلطات الواعية. انهاء الفقر مكلف «فليس هنالك غذاء مجاني» كما علمنا منذ 1776 أدام سميث مؤسس العلوم الاقتصادية.
لا بد من سياسات متنوعة تترافق مع النمو في كل القطاعات بدأ من التعليم الى الصحة والسكن كما الزراعة والصناعة. تطوير انتاجية الزراعة يرفع مستوى المعيشة في الأرياف وبالتالي يساهم في القضاء على الفقر. كذلك في الصناعة خاصة في الصناعات الحرفية الصغيرة التي تسمح بتطوير العمالة النسائية.
ثانيا: من نواحي الجمعيات غير الحكومية التي تلعب دورا كبيرا في تسريع وصول المساعدات للفقراء كما في تجنيب المانحين الدخول في الصراعات الداخلية الفاسدة. أهمية الجمعيات هو تخصصها كأن تساعد النساء على الانتاج تقنيا وماليا. هنالك جمعيات تهتم بالأطفال كما أخرى بالمقعدين وغيرهم. هنالك جمعيات تهتم أكثر بالريف والانتاج الحيواني وأخرى تهتم بالبيئة وهلم جرا. من أهم المبادئ التي ترتكز عليها الجمعيات هي نقل الانسان الى الانتاج أي يتعلم صيد السمك وليس فقط استهلاكه.
ثالثا: هنالك دور كبير للفقراء في محاربة فقرهم. المطلوب العزيمة والرغبة في القضاء عليه. هنالك ضرورة بأن يدخل الفقراء العملية الانتخابية بحيث يقترعون لمن يتمتع بالوعي والكفاءة. غالبا ما نشهد فقراء يقترعون لمن يضر بمصالحهم وهذا غير مقبول. لذا على الفقراء أن يوحدوا جهودهم ويضغطوا ويقترعوا لمن ينفذ السياسات التي تخفف فقرهم. نشهد فقراء لا يوظفون كل طاقاتهم في الانتاج والعمل بسبب سوء الوعي كما الكسل والاتكالية. نرى مواطنين فقراء لا يرغبون في القيام بأعمال معينة في الزراعة والانشاء وغيرها ويختارون الفقر.
رابعا: هنالك دور هائل للمؤسسات الدولية في القضاء على الفقر وفي الطليعة البنك الدولي والمؤسسات الاقليمية المتعددة كما المؤسسات الوطنية المتخصصة. بدأ من التسعينات، وضعت المؤسسات الدولية جهودا كبرى للقضاء على الفقر بينما كان التركيز سابقا وبجهود أكبر على النمو والمؤسسات والشفافية والانتاجية. اعتمدت نسب طموحة تم النجاح في بعضها وتأجيل البعض الآخر منها انهاء الفقر قبل سنة 2030. لا شك أن الكورونا ستؤخر التنفيذ لأن الموارد المالية تتركز اليوم على مواضيع محددة أهمها الصحة. هذه المؤسسات الدولية نفسها التي اعتمدت على الاقتصاد الحر كمبدأ تراجع عمليات التنفيذ. كانت العقيدة تقول أن ترك الاقتصاد الحر يعمل دون رقابة أو توجيه يقضي على الفقر وهذا ما لم يحصل. في السودان مثلا، كان انتاج الذرة مزدهرا في السبعينات، لكن النصائح الدولية المهتمة بالتصدير وجهت السودان نحو القطن جلبا للعملات الأجنبية. انحدرت أسعار القطن في الثمانينات ودخلت السودان في حلقة فقر مدمرة. القضاء على الفقر صعب، لكنه يجب أن يبقى الهدف.