يواجه نحو ثلثَي مرضى السرطان، والبالغ عددهم 29 ألفاً، الموت ببطء في ظلّ النقص الفادح في أدويتهم. الحلول محدودة لدى وزارة الصحة، التي تحاول تنظيم عملية تأمين هذه الأدوية بما هو متوفّر لديها من إمكانات. آخر الاقتراحات، الذي قد يرى النور قريباً، هو حصر كلّ الدواء المستورَد بمبلغ الـ19 مليون دولار المرصود لأدوية السرطان بالوزارة، وتوزيعه بنفسها على المراكز، على أن تسمح للوكلاء بالاستيراد، بنسبة محدّدة، والبيع وفق سعر السوق
قصة انقطاع أدوية أمراض السرطان ليست جديدة. بدأت بوادرها تشتدّ منذ حزيران 2021، مع امتناع مصرف لبنان عن الموافقة على طلبات استيراد الدواء التي تتقدّم بها الشركات، وهو ما قابلته الأخيرة بردّ سريع قضى بالتوقف عن الاستيراد لامتعاضها من المصرف الممتنع عن صرف مستحقاتها التي تقع في شقّين: الأوّل ما يتعلق بالفاتورة الشهرية للأدوية والبالغة 25 مليون دولار أميركي للدواء، منها ما يقارب 19 مليوناً لأدوية السرطان، والثاني ما يتعلق بجدولة الديون المستحقّة إلى الشركات والتي تبلغ حالياً 400 مليون دولار أميركي، بعدما كانت في حدود 590 مليوناً.
خلال تلك الفترة، كانت الأمور تُدار بتوسّط وزارة الصحة ما بين المصرف المركزي وبين شركات الاستيراد للعمل على تسريع دراسة المعاملات والصرف تالياً، غير أن النتائج لم تكن كما المرجوّ، بسبب عدم وجود آلية واضحة للصرف، وهو ما أدّى إلى النقص الحادّ في الدواء، وصل معه فقدان الأدوية في مركز التوزيع الأساسي في الكرنتينا وحده إلى 80%، فيما توقفت بعض المراكز في المناطق عن استقبال الطلبات بسبب انقطاع جلّ الأدوية الأساسية. وقد أدّى ذلك إلى توقف الكثير من المرضى عن تأمين علاجاتهم، فيما لجأ البعض الآخر إلى أبواب الاستيراد بأسعارٍ مضاعفة.
ثلاثية تتحكّم بالدواء
ازداد الأمر سوءاً مع إعلان مصرف لبنان التوقف عن تمويل استيراد الأدوية في نيسان الماضي، بحجة وصوله إلى أموال الاحتياطي الإلزامي، طالباً تغطيته بقرارٍ من الحكومة، وهو ما دفع بوزارة الصحة إلى الطلب من مجلس الوزراء تغطية الدواء من حقوق السحب الخاصة المعطاة للبنان من البنك الدولي لدعم القطاع الصحي. صدر القرار بذلك في أيار الماضي، وسُمح بصرف 35 مليون دولار (منها 10 ملايين دولار لاستيراد المستلزمات والمعدات الطبية) وتغطيتها لمدة 4 أشهرٍ متتالية. غير أن العائق الأساس لا يزال هو نفسه: وتيرة الصرف، إذ إن الأزمة التي تواجهها وزارة الصحة «هي وتيرة الدفعات غير الثابتة وهذا ما يثير القلق لدى الشركات العالمية»، يقول وزير الصحة العامة، فراس أبيض. وقد أضيف إلى هذا الأمر «الإضراب الذي عرقل المسار أيضاً، إذ لا يكون يوم عمل واحد للبت في كل الطلبات، برغم جهود الموظفين».
الثلاثية التي تتحكّم بالدواء اليوم هي: لا وقت محدّداً للصرف، ولا آلية واضحة، ولا اطمئنان إلى توجه الشركات العالمية فيما إذا كانت ستكمل «معروفها» مع لبنان أم أنها ستعاود الضغط من باب الديون. وفي هذا السياق، يلفت أبيض إلى أن «الشركات العالمية تتفهّم وضع لبنان»… أقلّه إلى الآن. أما الديون، فـ«أشك أن يكون معنا المال لتسديدها»، مؤكداً أن «400 مليون ما معنا»، ولكنه وعد من الناحية الأخرى ألا يزيد هذا المبلغ. هذا أقصى ما يمكن الحلم به في ظلّ الوضع الراهن.
شكوك في القدرة على تنفيذ هذه الآلية في انتظار موافقة الشركات والمصرف
حلّ… مشروط
حاولت وزارة الصحة سابقاً إدخال بعض القرارات لتعزيز فرص النجاة لمرضى السرطان. وكان من بين تلك القرارات ترشيد الدعم على بعض أنواع الأدوية، من باب دعم البدائل (الجينيريك الوطني تحديداً) لبعض الأدوية الأصلية الباهظة الثمن، بما يفتح الباب أمام زيادة الكميات، غير أن هذه الخطوة «لم يكن لها تأثير على المرضى ولم تخفّف الكثير من فاتورة الأمراض المستعصية والسرطانية»، بحسب المصادر. ولذلك، يعمد الوزير أبيض اليوم بعد الترشيد إلى التنظيم، إذ تشير المصادر إلى أن «الوزير يحاول اليوم إيجاد آلية ربط مباشر بين الأموال المدفوعة (19 مليون دولار) وبين أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية المستوردة، على أن تعمد الوزارة إلى تجييرها بالكامل إلى مراكزها، بخلاف ما هو حاصل اليوم لجهة حصوله على 40% فقط مما تأتي به الشركات والذي قد لا يكون أدوية أمراض سرطانية بالضرورة». في المقابل، تعطي الوزارة جرعة تحفيزية للمستوردين تتجلّى بالسماح «للوكلاء بهامش يُراوح ما بين 20 إلى 30% من حصة السوق يبيعونها وفق سعر السوق»، أي عملياً، يُرفع عنها الدعم. وهذا يعني أنه «لم يعد هناك من دواء مدعوم إلا عبر الوزارة».
وإن كان الوزير قد تلمّس «موافقة مبدئية» من جانب الشركات، إلا أن الأسئلة المطروحة هنا قد تقف عائقاً دون تحقيق الهدف المرجوّ، فهل ستكون الوزارة قادرة على التنفيذ السريع لقرارها المفترض؟ ومن هي الشركات التي ستحظى ببركة هذا القرار؟ وماذا عن الشركات الأخرى؟ والأهم من كلّ ذلك، هل سيلتزم المصرف بالصرف؟
التمرّد على المستوردين
أما في ملف الدواء، فحدّث ولا حرج. فبحسب الوزير أبيض، ما هو مرصود للأدوية من مبالغ «لا يكفي ولا يسدّ ما نحتاج إليه لكنه أفضل من لا شيء»، معتبراً أن ما يناله مرضى السرطان منه «يقارب الثلث من حاجة السوق الفعلية». وإذا كان طموح الوزارة في الفترة الحالية الحفاظ على تلك «المكتسبات» على ضآلتها، إلا أنها ترفض في الوقت نفسه أن تبقى تحت رحمة المستوردين، حيث اتخذت قراراً أخيراً أقرب إلى التهديد، ويقضي بأن أي دواء مسجّل في لبنان، لا يأتي ضمن مهلة ثلاثة أشهر، تُمنع الشركات من تسويقه. وإذا امتدّت المهلة أكثر، يُلغى الدواء من السوق، بحسب تأكيدات أبيض. وهذا إن حصل يفرض على الشركات الدخول مجدّداً في مسارٍ طويل يقضي بالتسجيل من جديد و«هذا ليس مضموناً خصوصاً في ظل وجود منافسين»، يحسم أبيض.
12 ألف إصابة جديدة سنوياً
في «أحدث» الإحصاءات الصادرة عن السجلّ الوطني للسرطان، والتي تعود إلى عام 2016، تُقدّر أعداد الإصابات الجديدة سنوياً بـ12 ألف إصابة تقريباً، يضاف إليها سنوياً ما يقرب من 6 آلاف إصابة لمرضى يتابعون علاجاتهم من السنوات السابقة. ومنذ خمس سنوات، لم يصدر أي تقرير لبناني لتعديل الأرقام السنوية. مع ذلك، يمكن الرجوع في هذا السياق إلى تقرير المرصد العالمي للسرطان والذي قدّر عدد الحالات السرطانية التي تخضع للعلاج بحدود 29 ألف حالة، حتى عام 2021.