IMLebanon

حين يثور مريض السرطان معلناً: أنا أختار علاجي

 

الرعاية الصحية المشخصنة

 

ليس سهلاً أن يعرف إنسان سليم معافى أنه سيُصبح مريضاً. وغير سهلٍ أن يعرفَ المريض، أنه قد يُصاب بعد إشارة أو إثنتين، أو شهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين، بالسرطان. لكن ماذا لو قيل لمريضِ سرطان أنه مصاب وأن علاجه لا يُشبه علاج الآخرين وأن نسبة شفائه ارتفعت ونسبة المشاكل التي قد تُحدق به انخفضت. هذه هي الرعاية الصحيّة المشخصنة. هذه هي الثورة الصحيّة الجديدة.

ثلاثة أطباء، من ثلاث جهات، اجتمعوا بدعوةٍ من “روش” لاستعراضِ كلّ التفاصيل التي تحوط دور علم الوراثة في علاج مرض السرطان. الأطباء الثلاثة هم: رئيس قسم علم الأمراض في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت الدكتور رامي محفوظ، وأستاذ علم الأورام في جامعة عين شمس في مصر الدكتور عمر شفيق والإستشاري في أمراض الأورام وأمراض الدم في مجمع الخالدي الطبي في عمان الدكتور صلاح عباسي. فماذا في التفاصيل- الثورة المسماة: العلاج المشخصن؟

 

هل تتخيلون اللقاء الأوّل مع شخصٍ تجهلون عنه كلّ شيء؟ ملامح هذا الشخص ستبدو باهتة، غير واضحة، مجهولة التفاصيل وشيئاً فشيئاً ستكتشفونه أكثر ويُصبح أكثر وضوحاً. تخيّلوا مرض السرطان الذي “يُبلبل” العمر. هو ينزل على المصاب كما الصاعقة فيضيع، يتشتت، وحين يبدأ في البحث عن العلاج لا يجد أمامه سوى الخضوع الى العلاج التقليدي وانتظار النتيجة. لا يجد أمامه سوى التجربة ولا يجد الطبيب أمامه سوى المحاولة.

 

هذا ما كان يوم كانت ملامح السرطان باهتة. وكان ما كان. فها نحن في زمن الثورة والثورة في الطبّ، كما في السياسة، تحتاج الى وضوح. رئيس منطقة المشرق في روش هشام صبري تحدث عن مضاعفة البيانات كثيراً في خمسين عاماً ويقول: كانت تتضاعف قبل العام 1980 كلّ سبعة أعوام، وأصبحت تتضاعف في 2010 كل ثلاثة أعوام ونصف، ويُتوقع أن تتضاعف سنة 2020 كلّ 76 يوماً. هذه هي الثورة الطبيّة التي بدأت تُزيل الضباب عن الميكروسكوبات الطبيّة لا سيما في عالم السرطان. فلندخل في التفاصيل ولنصغِ الى أطباء السرطان الثلاثة.

 

الدكتور رامي محفوظ يغوصُ في الجزيئيات والأبحاث بشغفٍ، كما يُتابع أخبار الثورة في لبنان بشغف، ويقول بكثير من التفاؤل: أصبحنا قادرين اليوم على فضحِ الشيفرة الوراثية والأسباب الجينية لكثير من الأمراض. ويشرح: الطبّ تطور والتكنولوجيا سرّعت ذلك كثيراً وانتقلنا الى مراحل متقدمة جداً تسمح لنا فهم كل حالة على حدة. وما عدنا ننظر، في الطبّ، الى المريض كعيّنة أو كرقمٍ بل بتنا نحصل عبر خزعة منه على كمّ من البيانات “وداتا المعلومات” التي تتيح لنا إختيار كيفية التعامل مع الحالة بمعزل عن العلاجات التقليدية العامة. ونعلن الآن أننا في الإتجاه الصحيح نحو التحكم في الجينات وفي العلاجات المحددة “المشخصنة”.

 

طبيب الأورام الأردني صلاح عباسي متفائل جداً ويقول: صوت المريض، خصوصاً مريض السرطان، مسموع جداً في الطب المشخصن. فهو أصبح يشارك طبيبه في رسمِ رحلة العلاج. ويستطرد: ليس أصعب من معرفة المريض عن مرضه سوى فهمه لماهيةِ هذا المرض. مريض السرطان قادر أن يفهم ويتفهم إذا وُضع في الصورة الكاملة ويتأكد أنه قادر أن يسيطر على مرضه. ويهم أن يعرف المريض أن هناك علاجاً له وحده سيُجنبه مشاكل التجربة والخضوع الى علاجات تؤذيه ولا تنفعه.

 

الطبيب المصري عمر شفيق يتحدث عن مرحلة إنتقالية يمر فيها العلاج السرطاني “فابشروا أيها المرضى”، ويشرح: لا بُدّ أن نتبع جميعنا في الفترة المقبلة العلاج المشخصن. ونحن بدأنا في إعداد “بروفايلات” الحالات التي تأتينا. هذا لا يعني طبعا أننا لا نواجه محاذير. لكننا نذللها واحدة واحدة وصولاً الى تطبيق فحص الجينوم الكامل.

 

 

كلام، كلام، يرفع المعنويات، خصوصاً معنويات من أصيب بسرطان أو كان في منزله امرؤ مصاب بسرطان. فلنصغِ أكثر الى الأطباء الثلاثة في مسألة الأبحاث في الطب المشخصن: تقنياً، نرتكز في فحوصاتنا الجينية على استخراج الحمض النووي من نواة الخلية، وكلما كانت العينة لها علاقة مباشرة بالورم، أو لنقل من قلب الورم، تأتي النتائج أكثر دقة. وقد تطوّرت الأبحاث في هذا الإتجاه أكثر حيث أصبحنا أكثر قدرة على استخدام الخزعة المائية، في حال لم نتمكن من الوصول الى الورم مباشرة، وقد نستخدم أيضاً أساليب بحثية أخرى على الدم الخارجي الذي يساعد في تحديد الطفرة الجينية، التي كلما تغيرت عن معدلاتها الطبيعية وتسلسلها الطبيعي تحولت الى سرطانية. وبالتالي الفحوصات المشخصنة تُمكّننا من استخدام الحمض النووي في تحديد التسلسل الجيني.

 

تريدون تفصيلاً أدق؟ الرعاية الصحية المشخصنة تعني تقديم العلاج والرعاية للفرد، مع الأخذ في الإعتبار السمات البيولوجية للفرد وأسلوب حياته. وبالتالي تُتخذ قرارات الرعاية الصحية مع المريض وليس بالنيابة عنه. وفي هذا الإطار تقول مديرة الشؤون العامة والسياسة في الشرق الأوسط في روش مايا حلباوي: يحتاج المريض الى مناقشة إحتياجاته لمساعدة أنظمة الرعاية الصحية على تطوير حلول وسياسات تهم المريض، بما في ذلك المحافظة على خصوصيته وبياناته الشخصية.

 

يتغيّر الطبّ. العلاجات تتغير. دولٌ كثيرة شهدت (وتشهد) ثورات وأشكال مختلفة من الحراك والطبّ، خصوصاً طبّ السرطان، التقليدي إنتفض على حاله، وتبدلت قواعد اللعبة وأصبح في الإمكان السيطرة على النمط العلاجي السرطاني. وهذا الخبر سيسرّ ملايين البشر في العالم ممن سمعوا أنهم مصابون بسرطان، ولم يسمعوا سوى بتجارب تُطبّق عليهم، على قاعدة إذا لم يشفِ هذا العلاج فسيضرّ لكن لا سبيل الى علاج هادف مباشر موجه لمريض محدد مباشر معين. هذه القاعدة انتهت ودخلنا زمن ثورة العلاج المشخصن. معلومة أحفظوها.

 

وماذا بعد؟

 

الدكتور رامي محفوظ يجزم أن الطبّ الشخصي سيُصبح، من خلال الإختبارات الجينية، بمثابة السمة المميزة التي يتمتع بها الجيل القادم حيث سيتمكن المرضى من استخدام أحدث التقنيات المخبرية والذكاء الإصطناعي التي تتيح لهم تخطي الحدود والحصول على مختلف الآراء وخيارات العلاج من جميع أنحاء العالم.

 

المريض هو العامل البسيط والمعقّد في منظومة الطبّ المشخصن، وبالتالي هذه التقنية الجديدة التي وُجدت لمصلحة المريض تحتاج، في شكلٍ أو في آخر، الى أن يفهمها المريض بدقة حتى يُسنح له أن يُشارك طبيبه في اختيار الحلّ ويتمكن أن يقول: أنا أختار… أنا من سيختار الحلّ والعلاج.

 

مريضُ سرطان؟

 

أنت تشارك اليوم في ثورة الرعاية الصحية المشخصنة. وقرارك يجب أن يكون مشخصناً. وعلاجك أيضاً. هذا لا يعني أن طبيبك سيخترع لك علاجا بل معناه أنه سيختار لك، من العلاجات الموجودة، العلاج الذي يناسبك. وهذا ما يُسمى: العلاج الشخصي “المشخصن” لكلِ شخص.

 

زمان، كان يُصار الى اختيار علاج مريض سرطان الرئة، على سبيل المثال، من دون العودة الى جيناته ووظائف هذه الجينات. كان المريض يأخذ نفس العلاج كما كل المرضى الآخرين، وكان 20 في المئة من المعالجين فقط لا غير يستفيدون في حين يضيع العلاج، كأنه ما كان، عند نحو ثمانين في المئة من المرضى. أما الآن فقد أصبح العلاج الدقيق المشخصن قادراً على تحقيق نتائج مذهلة. صار العلاج يتوجه مباشرة نحو الطفرات الجينية. وأصبح في الإمكان تقسيم المرضى الى مجموعات، وكلّ مجموعة يُصار الى اختيار العلاج الأفضل لها من بين أكثر من 130 علاجاً موجوداً الآن.

 

أبشروا خيراً. العلاج المشخصن بين أيديكم. إنه ثورة الطبّ الحديث.