من السياسات التي تقوم بها بعض الدول هي وضع قيود على حركات رؤوس الأموال القادمة أم الذاهبة أو الأثنين معا. تخاف الدول من القدوم الكبير والسريع لرؤوس الأموال بسبب التقلبات المحتملة التي تحدثها في الداخل، خاصة وأن «القصير الأمد» يخرج ويدخل للمضاربة. يضارب ضد النقد الوطني ويحدث بالتالي بلبلة كبيرة في الأسواق النقدية والمالية. من هنا كان اقتراح الاقتصادي «جيمس توبين» في وضع ضريبة مئوية منخفضة على هذه الأموال تجمعها الأمم المتحدة في صندوق يمول الحاجات التنموية للدول الفقيرة. هذا اقتراح جيد بالرغم من أن انتقال الأموال يمكن أن يكون أحيانا لأسباب فاضلة وليس دائما أو بالضرورة لأسباب تخريبية. تعميم الظن السلبي يمكن أن يكون مضرا في بعض الأحيان.
عندما تحل أزمة مالية في أي دولة، تسعى الحكومات للمعالجة اذ أن تأثيراتها على الاقتصاد الحقيقي وعلى مستوى المعيشة يكون عموما كبيرا ومكلفا. أما السياسات المقبولة لمعالجة هذه الأزمات المالية فتبقى محدودة في عددها ونوعيتها وامكانية تطبيقها شعبيا وتقنيا. هنالك دائما سياسات ذكية تسبق الأزمات يجب دراستها ووضعها في التنفيذ بالاضافة الى أخرى تتزامن مع الأزمة لتخفيف الأوجاع. هنالك ثالثا أخرى تلحق الأزمات لمعالجة الخسائر وتجنب أزمات مستقبلية مماثلة أو أسوأ.
دول عديدة تخاف من قدوم رؤوس أموال غزيرة اليها لأن النتائج يمكن أن تكون سوداء. تكون هذه الدول عموما نامية أو ناشئة أي لا تتمتع بمؤسسات قوية لمواجهة المخاطر. يمكن أن تكون هذه المؤسسات مالية أو قضائية أو مصرفية أو سياسية عادية. من النتائج المؤذية لرؤوس الأموال الغزيرة القادمة ارتفاع سعر الصرف الداخلي بسبب الطلب على النقد، مما يؤثر سلبا على الصادرات. من النتائج السيئة أيضا خسارة الاستقلالية النقدية التي تسببها حركة الأموال الكبيرة والسريعة مما يحدث عموما أزمات مصرفية ومالية تعجز السلطات عن مواجهتها. وضع قيود على رؤوس الأموال القادمة يسمح للدول المستقبلة بتجهيز نفسها لمواجهة أي محاولات لاحداث تقلبات كبيرة في الداخل.
لا يمكن تجاهل «الثلاثي المستحيل»، أي لا يمكن لأي دولة أن تنعم بالعوامل الثلاثة التالية في نفس الوقت وهي سعر صرف ثابت للنقد، حرية تنقل رؤوس الأموال من والى الدولة، وثالثا سياسة نقدية حرة أو مستقلة. على الدولة أو المجتمع أن يختاروا اثنين من الثلاثة تبعا للاوضاع الداخلية أو للأفضليات السياسية والادارية التي يمكن أن تختلف من اقتصاد لآخر. مثلا لبنان قبل الأزمة الحالية أو منذ أوائل التسعينيات وحتى آخر سنة 2019 اختار سعر الصرف الثابت لليرة مع الدولار وحركة رؤوس الأموال الحرة ذهابا وايابا، وبالتالي خسر استقلالية السياسة النقدية التي ربطته بالولايات المتحدة الأميركية. لبنان يتبع السياسة النقدية الأميركية منذ 1993.
ما حصل لبنانيا منذ آخر 2019 هو أن الأموال حولت الى الخارج خلال فترات قصيرة بسبب ضعف الثقة بالاقتصاد أو لتهريبها خوفا من تحقيقات ما أو بسبب الحاجة الى تنويع الاستثمارات. حصل بالتالي نقص في عرض الدولار في الداخل مما سبب انهيارا في السياسة النقدية المتبعة. انفجر سعر الصرف وما زال ولا سقف عملي له في الأسواق الحرة بسبب الأوضاع العامة التي تزداد سوءا. حصل عندها خلل كبير في كل الأسواق انعكس على المعنويات العامة. عندما تحتاج الدول الى عملات صعبة أو الدولار تحديدا، تلجأ الى صندوق النقد الدولي أو الى المصرف المركزي الأميركي للمساعدة. في لبنان ليست هنالك رغبة سياسية في اعتماد هذين الحلين، بل هنالك رغبة في جعل المواطن يدفع الثمن وهذا في غاية السوء.
تقييد تحويل رؤوس الأموال الى الخارج بالتزامن مع بقاء سياسة الدولار الثابت رسميا ضرب استقرار السوق النقدية وسبب بلبلة كبيرة في السوق بالاضافة الى ضرب الثقة في القطاع المصرفي اللبناني. الدولار مفقود في السوق لأن لبنان ما زال يستورد كل شيء تقريبا والقدرة على التصدير محدودة بالرغم من بعض النجاحات الصناعية والزراعية. ما الحل؟ عودة بعض هذه الأموال التي خالفت التعليمات، علما أن القوانين المرعية الاجراء وخصوصا قانون النقد والتسليف ما زالت عاملة وتسمح بالتحويل. من هنا يجب أن نتنبه للفارق الكبيرة بين الشرعية القانونية للتحويلات وبين مخالفتها لتعاميم المصرف المركزي وجمعية المصارف اذ أن الجرم أو الذنب يختلفان جدا.
لا يمكن للبنان الرسمي أن يسرق أموال اللبنانيين لتمويل سوء ادارة السلطات العامة المسؤولة عن الخسائر. أي مس بودائع اللبنانيين، كبيرة كانت أم صغيرة، سيضرب ركائز وجود لبنان كاقتصاد. لا يمكن محاسبة كل اللبنانيين عن فساد وسرقات قسم من السياسيين أو قسم من قطاعات الأعمال أو غيرها من المجموعات. يجب محاسبة الفاسدين والسارقين مباشرة وترك اللبنانيين ينعمون بما جنوه من عرق الجبين على مدى عقود من العمل الشاق الشريف داخل لبنان وخارجه. أي مس بودائع للبنانيين كما يحكى من وقت لآخر بخفية ودم بارد ينهي لبنان اقتصاديا ويشكل عمليا قنبلة ذرية ترمى علينا وعلى اقتصادنا.
مجددا أي مس بالودائع سيحرم لبنان من أي دخول مستقبلي للأموال الشريفة ويدفع بـ«السجناء النقديين والمصرفيين» في الداخل الى تحويل أموالهم الى الخارج عندما تسنح أول فرصة. من يتكلم عن سرقة الودائع أيا كان شكل التعبير المستعمل هو غير ملم بالنتائج أو يريد أن يضر بلبنان ومستقبله.
هل وضع قيود على رؤوس الأموال يؤدي حكما الى الاستقرارين المالي والنقدي؟ هل تقييد حركة رؤوس الأموال القادمة أو الخارجة ينفع دائما؟ هنالك اموال تأتي للاستثمار ولخلق فرص عمل وبالتالي منعها يخسر ويزعزع الثقة في الاقتصاد. هل تقييد رؤوس الأموال الخارجة ينفع دائما؟ لا، خاصة اذا طالت مدة القيود، فتتزعزع عندها الثقة في المؤسسات مما يسبب أزمات اقتصادية ومالية وحتى نفسية تدفع المواطنين الى الهجرة كما يحصل اليوم في لبنان.
الحل لمشاكل رؤوس الأموال لا يكون بتعميم التكلفة والأوجاع على الجميع. الحل يكون بمحاسبة المقصرين والمذنبين والمجرمين الماليين الذين خالفوا القوانين أو التعاميم أو القرارات الشرعية وجعلهم يرجعون أموالهم الى الداخل. تعميم الذنب هو أسوأ السياسات التي يمكن أن تتبع، وما زلنا في لبنان نتهرب من معاقبة المذنبين الفعليين. الاثباتات موجودة والقضاء يعرف كما أجهزة الرقابة المتخصصة في مصرف لبنان وخارجه حتى قبل التحقيق الجنائي. الجرأة مطلوبة من المسؤولين والتنفيذ ضروري رسميا وبسرعة لأن للوقت قيمة.