أكثر من 50 شارعاً رئيسياً وتقاطعاً وساحة عامة في العاصمة ستقفل غداً أمام المواطنين من أجل سباق الماراثون الذي تنظمه جمعية «بيروت ماراثون». الدخول الى العاصمة في هذا النهار سيكون شبه مستحيل، إلا لأولئك الذين يعلمون «زواريب» المدينة. كذلك، سيصرف مصرف لبنان والرعاة والمشاركون ملايين الدولارات التي ستجنيها الجمعية، من دون الإفصاح بشفافية عن ميزانيتها، ما يثير تساؤلات عدّة
وحدها، جمعية «بيروت ماراثون»، يمكنها أن تغلق معظم طرقات العاصمة. غداً، لا طرقات مفتوحة أمام المواطنين لأنها ستُقفل من أجل ماراثون بيروت. الدولة بأكملها ستكون مسخّرة لخدمة الجمعية؛ محافظ بيروت وحاكم مصرف لبنان مهتمان شخصياً بالحدث، قوى الأمن الداخلي تستنفر عناصرها وآلياتها منذ مساء اليوم، الصليب الأحمر اللبناني بدوره سيُنزل عدداً كبيراً من متطوعيه وشبابه لمواكبة الماراثون، أمّا المواطنون المجبورون على البقاء في منازلهم يوم عطلتهم بسبب قطع الطرقات، فعليهم أن ينتظروا مرور آخر العدائين كي تُفتَح لهم الطريق.
النفوذ في هذه «الحلقة الرياضية» ليس للجمعية فقط، بل للمصارف أيضاً؛ فالماراثون الذي حمل لمدة 8 سنوات اسم «سباق بلوم بيروت ماراثون» نسبةً إلى بنك لبنان والمهجر الراعي الاساسي للحدث، أصبح عام 2013 يحمل اسم مصرف لبنان بعدما أعلنت الجمعية عن عقد شراكة مع مصرف لبنان لرعاية سباق الماراثون لمدة 3 سنوات، ما يعني أنه غداً ستكون النسخة الأخيرة لسباق «مصرف لبنان بيروت ماراثون»، علماً بأنه لا شيء يمنع التجديد.
قطع الطرقات
الإجابات عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالجمعية والسباق لا يمكن أخذها سوى من «الحلقة النخبوية الضيقة» المتابعة لهذا الحدث؛ فمحافظ بيروت زياد شبيب الذي أصدر قرار إغلاق العاصمة يهتم شخصياً بهذه المسألة. حاولت «الأخبار» التواصل معه للاستفسار منه عن هذا القرار، فتبيّن أنه مسافر ولن يعود إلا قبل يوم «الماراثون»، وربما سيعود من أجله فقط. لكن من يمكن أن يفيدنا في هذه المسألة؟ أتى الجواب من مستشاره أنّ «المحافظ يتابع مسألة الماراثون شخصياً، ولا أحد غيره يملك المعلومات».
وبناءً على قرار المحافظ، عمّمت المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، أول من أمس، تدابير السير المتّخذة لأجل الماراثون، فأعلنت «منع وقوف السيارات اعتباراً من الساعة الثامنة من مساء اليوم ومنع مرورها اعتباراً من الساعة السادسة صباحاً من تاريخ السباق لحين الانتهاء». تطال الإجراءات مداخل العاصمة، وتشكل أكثر من 50 شارعاً وتقاطعاً رئيساً في المدينة. يقول مصدر أمني إن «القرار إداري لا علاقة لنا به، نحن نتولى التنفيذ فقط»، مبرراً إغلاق الطرقات بأنّ «الحدث عالمي وقطع الطرقات مدروس من قبل خبير «عالمي» وليس عشوائياً! كذلك فإنه سيكون لفترات قصيرة، على أن تُفتح الطرقات تباعاً عندما يمرّ العدائون».
حجة «العالمية» المطروحة دائماً كتبرير لما يرتكبه البعض، تقودنا الى سؤال جوهري: هل تُغلق عواصم «العالم» بشكل شبه كامل؟ أم انّ الأمر يقتصر على إغلاق جزء محدّد من الشوارع؟ كذلك هل تُغلق مداخل العواصم العالمية؟ فجسر الدورة صحيح أنه ليس مقطوعاً، لكن جميع الطرقات بعده مقطوعة! هل بإمكان هذا الخبير «العالمي» أن يُقفل المدينة التي يعيش فيها؟
يأسف المستشار الاعلامي في جمعية «بيروت ماراثون»، حسان محيي الدين، لرؤية الجانب السلبي فقط من هذا «الحدث الذي وضع لبنان على خارطة الأحداث الدولية». يوضح أنّ «إقفال بعض الطرق يوم السباق يتم لفترة زمنية لا تتجاوز 4 ساعات، حيث باتت الجمعية تعتمد الخطة المتحركة والقاضية بفتح الطرقات تباعاً»، مشيراً إلى أنّ «هذا الإقفال للطرقات تلتزم به كل عواصم الدول التي تنظّم سباقات ماراثونية ولا نسمع اعتراضات، بل دعماً وتشجيعاً، فضلاً عن أن إقفال الطرق، ولو لساعات، يساعد في التخفيف من التلوّث البيئي الذي تسبّبه السيارات».
لا ينسى محيي الدين تذكيرنا بأنّ «إقفال الطرقات بسبب هذا الحدث الذي ينقل الصورة الحضارية عن لبنان يبقى أكثر منطقية وواقعية من حالات الإقفال القسرية لطرقاتنا بسبب أحداث سياسية وأمنية». وهنا يُطرح تساؤل مهم: إن إقفال شارع واحد بسبب تظاهرة يؤدي الى زحمة سير خانقة في المدينة (عدا عن الأصوات «القلقة» على الاقتصاد التي ترتفع تلقائياً)، فكيف بإقفال أكثر من 50 شارعاً؟ كذلك، لماذا يُغلق هذا العدد الكبير من الشوارع لخدمة جمعية مفترض أنها «لا تبغ الربح»، لكنها ترفض الإفصاح عن ميزانيتها؟ ولماذا دائماً تأتي حقوق الناس في مرتبة أدنى من نشاطات من هذا النوع «النفعي»؟
حدث رياضي أم بيزنس؟
حسناً، ماذا عن مصرف لبنان، الراعي الرسمي للماراثون؟ لماذا يدعم الماراثون؟ وما هو حجم الدعم المالي الذي يقدّمه للجمعية؟ أسئلةٌ مشروعة ويُفترض أن تكون إجاباتها متاحة، لكون المصرف هو مؤسسة عامة يحق للرأي العام الاطلاع على ميزانيتها، ولكون الجمعية في المقابل يفترض أن تكون ميزانيتها شفافة. لكن المصرف لا يريد أن يجيب. فقد حاولت «الأخبار» التواصل مع المديرة التنفيذية لدى حاكمية مصرف لبنان ماريان حويك، ليأتي الجواب من مكتبها أنها «لن تستطيع أن تجيب عن هذه الأسئلة». هل من أحدٍ آخر يمكن أن يجيب؟ «هي مخوّلة بالإجابة لكنها لا تريد». وحده حاكم مصرف لبنان يمكنه المساعدة في هذا الأمر، لأنه يدعم الماراثون بصفته «حاكماً»، هكذا كان الرد حرفياً.
هذا الغموض يدفع الى التساؤل عن سبب رفض مصرف لبنان التصريح عن المبلغ الذي يقدمه إلى الجمعية، خصوصاً أنّ ميزانية عمل الجمعية ضخمة، إذ كشفت رئيسة الجمعية مي الخليل، السنة الفائتة، لـ»الأخبار»، أنّ كلفة عمل الجمعية سنوياً بجميع نشاطاتها تبلغ 4 ملايين دولار، يدفع منها مصرف لبنان مليون دولار! أمّا الكلفة العملية التنظيمية للسباق فتتجاوز، وفق محيي الدين، «مليون ونصف مليون دولار، وقد يكون الرقم بالنسبة إلى البعض فيه مغالاة، لكن تلك هي الحقيقة ذات الصلة بالمتطلبات». مغالاة؟ المبلغ كبير حقاً؟ يردّ محيي الدين بأن «هذا المبلغ الضخم يتوزع على الحواجز الحديدية، الجسور والمنصات والخيم، مولدات كهرباء، تمديدات الإضاءة، اليافطات، المجسمات… وفريق العمل الميداني الذي يصل تعداده إلى 400 شخص، فضلاً عن موظفي الجمعية الدائمين الذين يقارب عددهم 35 شاباً وشابة». ولكن أليست التجهيزات «معمّرة»، بمعنى أنها لا تُستهلك في ماراثون واحد، بل يجري استعمالها على مدى طويل؟
ترفض الجمعية التصريح عن حجم أرباحها السنوية ــ أو خسائرها كما تدّعي ــ، إذ يتحدث محيي الدين عن «خلل في التوازن بين النفقات والإيرادات، بحيث بات واضحاً (لمن؟) وبالأرقام (أين هي؟) أن السباق خاسر مالياً، لكنه مربح جماهيرياً وشهرة واستثماراً على الصعيد الوطني والاقتصادي والسياحي والبيئي»، من دون أن يقدّم أرقاماً واضحة. يستطرد محيي الدين سريعاً عن كيفية استمرار «مشروع خاسر» مدة 13 سنة، فيقول إنّ المنقذ هو «المبادرة الفردية الخلاّقة التي تقف وراءها رئيسة الجمعية مي الخليل، إيماناً منها بواجب تجاه بلدها وشعبها»، مكتفياً بالإشارة إلى أنّ «ميزانيات الجمعية السنوية ترفع إلى الجهات الرقابية، وفي مقدمها ديوان المحاسبة، بمعنى أن كل الأرقام واضحة وشفاّفة». لكن تقديم الميزانيات الى ديوان المحاسبة لا يكفي بالنسبة إلى جمعية تدّعي الشفافية، إذ إنّ هذه الشفافية تفرض على الجمعية تقديم أرقامها الى الرأي العام للاطلاع عليها، خصوصاً أنّ التكلفة الضخمة للماراثون تعترف الجمعية بأنّ البعض يراها مبالغاً بها، وهي تشكّل موضع تساؤل لدى العديد من الأشخاص.
ترعى ماراثون بيروت هذه السنة 204 مؤسسات، عدا عن رسوم التسجيل المرتفعة المفروضة على المشاركين. فقد وصل عدد المشاركين هذا العام الى 37811 مشاركاً يتوزعون على عدّة أنواع سباقات، يبلغ رسم الاشتراك فيها بين 13 دولاراً و150 دولاراً. وفي عملية حسابية للمدخول الإجمالي الناتج من رسوم التسجيل فقط (مع استثناء السباقات المخصصة لذوي الحاجات الخاصة)، يتبيّن أنّه يبلغ هذا العام نحو 830 ألف دولار، أي إن الجمعية تغطي أكثر من نصف تكاليف السباق المزعومة من خلال رسوم التسجيل، من دون أن نتطرّق الى حجم الرعايات المالية التي تتلقاها من الـ204 مؤسسات.
للجمعية تبريرها، إذ يوضح محيي الدين أنّ «غالبية المؤسسات الراعية لهذا الحدث لا تدفع أموالاً، بل تقدّم احتياجات وتجهيزات لوجستية وتقنية، مع الإشارة إلى أن بعض أنواع الرعايات لا تتجاوز أكثر من 1000 دولار أميركي، وإن يكن بعضها يصل إلى بضع عشرات الآلاف». يبرز هنا تناقض واضح، فقد أعلنت الجمعية أن السباق يكلّفها مليون ونصف مليون دولار تتوزّع على تجهيزات لوجستية إضافة الى أجور فريق العمل وموظفي الجمعية، لكن إذا كانت غالبية المؤسسات الراعية تقدّم تجهيزات لوجستية، على ماذا يتوزّع مبلغ المليون ونصف المليون دولار؟ يقودنا الأمر الى تساؤل آخر: كم تبلغ معاشات موظفي الجمعية؟
في ما يتعلق برسوم التسجيل، يقول محيي الدين إنّ «65 في المئة من المشاركين هم من قبل الجمعيات الخيرية التي تحصل على حسومات تتراوح بين 25 و30 في المئة من قيمة الرسوم، إضافة إلى أن فئات كثيرة من المشاركين لا تدفع الرسوم، ومن بينها المدارس الرسمية ودور الأيتام وفئة الاحتياجات الخاصة والمؤسسات العسكرية والأمنية والدفاع المدني والكشافة». لكن، إذا كانت الجمعية «لا تبغي الربح»، فلماذا ترفض الإفصاح للرأي العام عن حجم الرعايات التي تتلقاها وعن ميزانيتها العامة؟ أمّا السؤال الأفظع، فهو لماذا يرفض مصرف لبنان الإفصاح عن حجم دعمه للجمعية؟