شدّد كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي د. غربيس ايراديان في مقابلة مع «الجمهورية»، على انّه في حال عدم التوصل الى اتفاق على تشكيل حكومة من خبراء مستقلين برئاسة شخصية مستقلّة، يتوجب على رئيس الجمهورية الاستقالة وتأليف حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة، بما في ذلك التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان واقرار «الكابيتال كونترول» واعادة هيكلة قطاع الكهرباء. كما يجب حلّ مجلس النواب الذي عطلّ غالبية اعضائه كافة الاصلاحات المقترحة.
اعتبر كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي د. غربيس ايراديان، انّه نظراً الى الحاجة الملحّة للتوصل الى اتفاق حول برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي، سيكون من المفيد أن يتمّ تعيين خبراء في الاقتصاد ذوي خبرة طويلة مع صندوق النقد الدولي، لرئاسة وزارة المالية وحاكمية مصرف لبنان، واثنين على الاقل من نواب الحاكم. وهناك العديد من الخبراء اللبنانيين المستقلّين المؤهلين لتلك المناصب، مقيمين في لبنان والخارج. هذا ما حصل في السودان على سبيل المثال، حيث تمّ تأليف حكومة انتقالية بمهمّة رئيسية هي اصلاح الاقتصاد. وقد قامت برفع الدعم عن الوقود وبتوحيد اسعار الصرف المتعددة، في اطار برنامج مع صندوق النقد الدولي، كما تمّ تقليص اعباء الدين العام وحصلت البلاد على تمويل خارجي.
– هل يمكن توحيد أسعار الصرف في ظلّ غياب برامج اصلاح وتدفقات مالية خارجية؟
لا يمكن توحيد أسعار الصرف المتعددة من دون وضع سياسة واضحة وشاملة للاقتصاد الكلي، ومن دون الحصول على الدعم المالي من المجتمع الدولي. لا بل انّ خفض سعر الصرف الرسمي قد يؤدّي إلى توسيع الفجوة بينه وبين سعر السوق الموازية. إلّا انّه يجب رفع الدعم عن الوقود والأدوية في أسرع وقت ممكن، وان يُصار الى اعتماد شبكة أمان اجتماعي تشمل توزيع مساعدات مالية نقدية بالدولار الأميركي إلى الفئات الفقيرة، بدلاً من استخدام سعر الصرف الرسمي لاستيراد الوقود والأدوية والمواد الغذائية الأساسية الأخرى.
انّ خفض قيمة سعر الصرف الرسمي دفعة واحدة ومن دون اتباع الإصلاحات الهيكلية المصاحبة، لن يكون له أي أثر تقريباً في تقليص الفرق الشاسع بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية. ففي ورقة بحثية حديثة أعدّها معهد التمويل الدولي حول محاولات توحيد سعر الصرف في 12 دولة: الجزائر وأنغولا والأرجنتين ومصر وإيران ولبنان ونيجيريا والسودان وسوريا وتركمانستان وأوزبكستان وزيمبابوي، تُظهر التجارب في هذه البلدان وغيرها من دول أميركا اللاتينية وجنوب صحراء أفريقيا، أنّ التوحيد الناجح لاسعار الصرف يعتمد بشكل اساسي على تنفيذ الإصلاحات الشاملة، بما في ذلك السياسات المالية والنقدية الملائمة، وكذلك الإصلاحات الهيكلية (ويُفضل أن يكون ذلك في سياق برنامج صندوق النقد الدولي للمساعدة في حشد الدعم المالي الكافي من المجتمع الدولي). يجب أن يكون نظام سعر الصرف الموحّد متوازياً مع السياسات المالية والائتمانية الأساسية. وكلما أسرع لبنان في التصرّف، كلما كانت الآثار المترتبة عن خفض السعر الرسمي الى مستويات قريبة من السعر الموازي، أقل ايلاماً. ويتوقف التوحيد الناجح لأسعار الصرف المتعددة في لبنان على ما يلي:
• تأليف حكومة جديدة من خبراء مستقلين (بما في ذلك رئيس الوزراء غير الحزبي).
• إجراء تدقيق كامل لحسابات مصرف لبنان ووزارتي الطاقة والمالية.
• اقرار قانون الكابيتال كونترول.
• استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف الاتفاق على برنامج اقتصادي.
إعادة الثقة
– كيف يمكن أن يساهم توحيد أسعار الصرف في تعافي البلاد من أزمتها؟
يعيق نظام سعر الصرف الحالي عمل القطاع الخاص بسبب تعدّد أسعار الصرف المعتمدة والقواعد غير الشفافة في تأمين العملات الأجنبية. إنّ توحيد الأسعار المختلفة ضمن مقاصة سوق واحدة من شأنه أن يعيد الثقة واليقين، ويساهم بالإضافة الى الاصلاحات المطلوبة في تعافي القطاع الخاص. ويشير الفارق الكبير بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية (720%) وعدم تلبية الطلب على العملات الأجنبية، إلى الحاجة لتعديل كبير في سعر الصرف الرسمي لتقليص الفجوة بين العرض والطلب.
– أي نهج هو الأفضل، التدريجي، أو التوحيد السريع لأسعار الصرف؟
تُظهر تجربة العديد من البلدان أنّ توحيد اسعار الصرف يمكن ان يحدث بشكل سريع، خصوصاً عندما يؤثر نظام أسعار الصرف المتعددة، سلباً على الاحتياطات الاجنبية، وعندما يكون الطلب المحلي على العملات الأجنبية غير مستوفى. هذا ما حدث في مصر (الموحّدة لاسعار الصرف في تشرين الاول 2016) ، والسودان (شباط 2021) ، وسوريا (نيسان 2021). هناك أيضاً حالات توحيد تدريجي ناجحة، أو تقليص كبير في الفروقات بين المعدلات الرسمية والموازية ، لا سيما في اقتصادات جنوب صحراء أفريقيا مثل غانا (كانون الثاني 2014 إلى حزيران 2015) وأنغولا (2017 إلى الوقت الحاضر) وزيمبابوي (حزيران 2020 حتى الوقت الحاضر). في هذه البلدان، شملت جهود التوحيد، تحرير الأسعار وتحرير التجارة وتشديد السياسات النقدية والمالية. ويمكن للبنان الاقتباس من تجارب مصر والسودان في توحيد أسعار الصرف بنجاح.
في أعقاب الربيع العربي في العام 2011 وما تلاه من تدفقات كبيرة لرؤوس الأموال غير المقيمة إلى الخارج، انخفضت الاحتياطات الرسمية لمصر بشكل حاد، وكان المعروض من العملات الأجنبية أقل بكثير من الطلب. اتسع الفارق بين السعرين الرسمي والموازي إلى 60% بحلول تشرين الاول 2016. وفي سياق برنامج صندوق النقد الدولي، خفّض البنك المركزي المصري السعر الرسمي في تشرين الثاني 2016 الى مستويات قريبة من السعر الموازي، وأزال القيود المفروضة على قدرة البنوك على تحديد أسعار البيع والشراء الخاصة بها، وألغى قائمة الاستيراد ذات الأولوية، وسمح بأن تحدّد السوق سعر الصرف. كما صاحب الانتقال إلى نظام سعر الصرف المرن تشديد كبير في السياسة النقدية والمالية، وتمّ تنفيذ العديد من الإصلاحات في سياق برنامج مدته 3 سنوات مع صندوق النقد الدولي، مما أدّى إلى عودة التدفقات المالية لغير المقيمين وانتعاش الاحتياطات الرسمية.
في السودان، أدّت عقود من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد والحرب الأهلية والعقوبات الدولية إلى نقص مستمر في النقد الأجنبي وتعدّد أسعار الصرف. منذ بداية هذا العام، بدأت الحكومة الجديدة، بدعم من المجتمع الدولي (بما في ذلك برنامج صندوق النقد الدولي)، في تنفيذ برنامج إصلاحي طموح، بما في ذلك رفع الدعم وتوحيد أسعار الصرف، لمعالجة الاختلالات الرئيسية في الاقتصاد الكلي وتحقيق نمو أكبر ومستدام. وطلب بنك السودان المركزي في 21 شباط من البنوك توحيد سعري الصرف، من خلال خفض سعر الصرف الرسمي الى مستويات قريبة من السعر الموازي.
سوء ادارة الاقتصاد
– ما الذي يفسّر الفروقات المختلفة بين اسعار الصرف الرسمية والموازية في دول عدّة؟
تُعتبر النسبة التي يتجاوز فيها سعر الصرف الموازي السعر الرسمي، مؤشراً مهمًا على عدم وجود تناسق بين سياسة الاقتصاد الكلي ونظام سعر الصرف. يعود سبب الفرق الكبير بين سعري الصرف في لبنان (720%) وإيران (450%) الى الشلل السياسي والعقوبات على التوالي، بالإضافة إلى سوء إدارة الاقتصاد الكلي واسعار الصرف الرسمية المبالغ فيها.
يُعتبر سعر الصرف الموحّد للسوق (الذي يوازن بين الطلب والعرض من العملات الأجنبية) أمراً بالغ الأهمية لاستعادة الاستقرار الكلي وتعزيز الاستثمار والنمو. ويمكنه أيضاً تعزيز التنافسية والشفافية والقضاء على التشوهات المرتبطة بتعدّد اسعار الصرف، بالاضافة الى تعزيز استقلالية البنك المركزي وتقليص الأنشطة الريعية التي تزيد من مخاطر الفساد. وتجدر الاشارة الى انّ الفروقات الكبيرة في سعر الصرف الرسمي والموازي تشجع التهريب أو التجارة غير المشروعة. وهذا ما يحصل في لبنان على سبيل المثال، مع وجود فارق بين السعر الرسمي والسعر الموازي يزيد عن 700%، قام البنك المركزي بدعم واردات المنتجات الأساسية مثل الوقود على سعر الصرف الرسمي، ما ادّى الى تهريب جزء كبير من الوقود المستورد إلى سوريا.
من العوامل التي تؤدّي الى توسيع الفارق بين سعر الصرف الرسمي والموازي: السياسة النقدية التوسعية، تمويل العجز المالي الضخم من خلال طباعة العملة، ورفع سعر الصرف الرسمي الحقيقي. والبلدان التي فشلت في كبح نمو السيولة المتداولة هي الأرجنتين ولبنان والسودان، وذلك يعود جزئياً إلى تسييل العجز المالي، ما أدّى الى انخفاض إضافي في سعر الصرف الموازي والى معدلات تضخم أعلى. هناك أيضاً علاقة قوية بين التجارة غير المشروعة والفارق بين سعر الصرف الرسمي والموازي.
تشمل العوامل الأخرى التي تساهم أيضاً في اتساع الفارق بين سعري الصرف: العقوبات (إيران وسوريا) وعدم الاستقرار السياسي أو الخلل السياسي (لبنان).
يؤدّي عادة خفض قيمة سعر الصرف الرسمي الى تقليص الفارق بين سعري الصرف بشكل كبير عندما يقترن بسياسات مناسبة للاقتصاد الكلي وبتحسّن في تدفقات رأس المال الأجنبي، لا سيما الدعم المالي من المجتمع الدولي، ويفضّل أن يكون ذلك من خلال برنامج صندوق النقد الدولي.
التجربة السورية
– هل تنصح مصرف لبنان بأن يحذو حذو سوريا في خفض سعر الصرف الرسمي الى مستويات قريبة من السعر الموازي؟
في 15 نيسان 2021 ، خفّضت السلطات السورية السعر الرسمي من 1256 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي إلى 2512. قد تشجع هذه الخطوة التحويلات الخاصة للسوريين الذين يعيشون في الخارج عبر النظام المصرفي المحلي بدلاً من السوق الموازية. بناءً على معلومات جزئية، يبدو أنّ المعنويات قد تحسّنت حيث تقلّص الفارق بين المعدلين من 200% في آذار 2021 إلى 18% في الأيام الأخيرة. بشكل عام، لن يؤدي خفض سعر الصرف الرسمي في حدّ ذاته إلى تضييق الفارق بين السعر الرسمي والسعر الموازي بشكل كبير إلى ما بعد المدى القريب، في غياب إصلاحات اقتصادية شاملة. واعتمدت السلطات السورية ميزانية ضيقة للعام 2021، وربما أدخلت إصلاحات عدة لتحرير سوق الصرف الأجنبي. يبقى أن نرى ما إذا كان المعدل الموازي سيبقى عند المستويات الحالية أو يستأنف التراجع.
مشكلة التضخّم
– هناك تخوّف في لبنان من ان يؤدي توحيد أو تخفيض سعر الصرف الرسمي، الى ارتفاع معدل التضخم بشكل كبير إلى أكثر من 200% في غضون أشهر قليلة. هل توافق؟
يمكن أن يحدث ذلك على المدى القصير. ولكن بما أنّ التضخم قبل تعديل سعر الصرف الرسمي، يعكس إلى حد كبير الحركة في سعر الصرف الموازي، فإنّ أثر تعديل السعر الرسمي الى مستويات قريبة من السعر الموازي يمكن أن يكون متواضعاً. في الواقع، اعتماداً على العوامل التي حفّزت أساساً ظهور سوق موازية، قد يستمر هبوط سعر الصرف الموازي بعد توحيد أسعار الصرف، بما قد يتجاوز معدل التوازن في البداية. ومع ذلك، قد يعاود سعر الصرف الارتفاع لاحقاً، إذا عالجت السلطات الأسباب الكامنة وراء السوق الموازية. في حالة لبنان، سيقتضي توحيد سعر الصرف، رفع الدعم، ما سيؤدّي إلى معدل تضخم أعلى بكثير على المدى القصير. إلّا انّه يمكن تقليص هذه الضغوط التضخمية في حال بدأ المعدل الموازي أو المعدل الموحّد في الارتفاع، بعد تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة والحصول على المساعدة المالية الكافية من المجتمع الدولي (في سياق برنامج صندوق النقد الدولي).
يعود السبب الرئيس في تسارع هبوط سعر الصرف في السوق الموازية في الأشهر الأخيرة إلى فقدان الثقة في قدرة السلطات الحالية على تنفيذ برنامج اقتصادي شامل، بالإضافة الى الشلل السياسي طويل الأمد. وبالتالي فإنّ سبب ارتفاع معدل التضخم السنوي من 11% في شباط 2020 إلى 155% في شباط 2021 هو انخفاض سعر الصرف في السوق الموازية. كما انّ احتياطي العملات الاجنبية لدى مصرف لبنان آخذ في النضوب، ولن يتمكن البنك المركزي من مواصلة دعم استيراد السلع الأساسية، بما في ذلك الوقود والأدوية والمواد الغذائية. في المقابل، يعود انهيار الإيرادات الحكومية في لبنان في العام 2020 إلى حد كبير إلى استخدام سعر الصرف الرسمي المبالغ فيه لتحصيل الإيرادات الضريبية من الواردات (ضريبة القيمة المضافة، والجمارك وغيرها)، والى دعم واردات الوقود والمنتجات الأساسية الأخرى والتي يتمّ تهريبها الى سوريا.
دور المنصّة
– كيف ستؤثر المنصّة الجديدة التي أطلقها مصرف لبنان للمصارف والصيارفة على سعر الصرف في السوق السوداء؟
تظهر تجارب العديد من البلدان، أنّ النجاح في قمع الأسواق الموازية عادة ما يكون قصير الأجل. كما أثبتت محاولات السلطات في 12 دولة (بما في ذلك إيران وسوريا والسودان ومصر وغيرها) قمع السوق السوداء، أنّها غير فعّالة. أعتقد أنّ المنصة الجديدة تهدف إلى تنظيم عمليات سحب الودائع الاجنبية بالليرة اللبنانية. ستظل السوق الموازية نشطة، ومن غير المرجّح أن يتقلص الفارق بين السعرين الرسمي والموازي، في ظل عدم تشكيل حكومة جديدة من خبراء مستقلين، وعدم القيام بإصلاحات اقتصادية ومؤسسية شاملة.